تاريخ النشر : 26/01/2017
عدد المشاهدات : 4309
حماد القباج
عُرِف العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى؛ بمواقفه وآراءه في نقد أخطاء الجماعات والأحزاب الإسلامية؛ وهذا النقد أمر مهم في ترشيد العمل الإسلامي وتطوير الأداء الدعوي ..
لكن ثمة أمر لا يقل أهمية عن “النقد“؛ ألا وهو “التعاون“؛ أي: تعاون العاملين للإسلام -أفرادا وجماعات ومؤسسات- فيما بينهم وتكاملهم واستفادة بعضهم من خبرات وتخصصات البعض الآخر ..
وهذا الجانب يكاد يكون غائبا بين أولئك العاملين؛ بخلاف جانب الرد والنقد الذي يعرف تضخما غير عادي ..
قال الشيخ الألباني في الحلقة (609) من سلسلة الهدى والنور:
“قال الله عز وجل: “وخلق الإنسان ضعيفا” (النساء:28)؛ فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل شيء، لا يستطيع أن يحقق في العلم وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع ..، لا بد من الاختصاص في كل علم يعتبر -على الأقل-؛ من الفروض الكفائية.
لهذا أنا أقول: لا أنكر على أي جماعة تقوم بفرض كفائي؛ لكنني أنكر تفرق ذوي هذه الاختصاصات وعدم تكتلهم وتعاونهم بعضهم مع بعض؛ فلو فرضنا أن الإخوان المسلمين أخذوا جانبا من هذه الفروض الكفائية وتخصصوا فيها، لكنهم لم يعادوا الطائفة الأخرى التي تتخصص في غير تخصصهم، كما أن هذه الطائفة الأخرى لا تعادي الإخوان المسلمين؛ لأنهم تخصصوا في واجب آخر..؛ فأنا أعتقد جازما أنه لا يمكن أن تقوم قائمة الدولة المسلمة إلا بتعاون كل هذه الجماعات على أساس الكتاب والسنة أو على منهج السلف الصالح.
وأقول: السلفيون المتخصصون في فقه الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ويحاولون أن يحملوا أنفسهم على الاقتداء بالكتاب والسنة في كل كبيرة وصغيرة..؛ ومع ذلك إذا ظلوا في هذا الجانب فقط، ثم لم يأخذوا بالجوانب من الفروض الأخرى، ولو بالتعاون مع الطوائف الأخرى؛ فهم أيضا سيظلون (مكانك راوح)، فلا بد إذاً من تعاون كل الجماعات كل باختصاصاته.
ولاشك أن أهم شيء مما ينبغي القيام به من الإصلاح هو ما عليه السلفيون في عالم الدنيا كلها؛ وهو تصفية هذا الإسلام مما دخل فيه، وتربية المسلمين على هذا الأساس، نحن لا ننكر القيام بالفرائض الكفائية، لكننا لا نبالغ فيها كما يبالغ الآخرون في ذلك…”اهـ[1]
هذا الكلام الرصين الفقيه يضع الإصبع -كما يقال-؛ على داء يعاني منه العمل الدعوي؛ وهو غياب التعاون بين العاملين للإسلام؛ فترى كل جماعة تقفل عليها بابها ولا تستفيد مما عند الأخرى من طاقات وكفاءات وتخصصات في كل المجالات: العلمية والثقافية والإدارية والسياسية والإعلامية ..إلـخ.
بل إن واقعهم أسوأ من هذا؛ واقع يغلب عليه التنافر والتدابر بسبب حظوظ النفس أو سوء الفهم أو سوء الأخلاق، وهو الواقع المر الذي ترسخ بسبب ندرة القيادات التربوية الحكيمة التي تربي أتباعها على سلوك التعاون والتكامل، ونبذ التهاجر والتآكل ..
وهذا الواقع يشكل مظهرا من مظاهر ما شهد به الشيخ الألباني في آخر حياته من كون السلفيين قصروا كثيرا في الجانب التربوي الأخلاقي.
إن من أسوأ إفرازات هذا الواقع المنحرف؛ ما نراه من خذلان العاملين للإسلام بعضهم لبعض، وتفريط بعضهم في نصرة بعض!!
فلما استهدفت الإمبريالية الظالمة؛ السلفيين بعد صدور تقرير (راند)، فرط الإخوان المسلمون في نصرتهم، ولما قررت محاربة الإسلام السياسي؛ أسلمته بعض الجماعات السلفية والصوفية، وإذا استُهدفت جماعة التبليغ خذلتها جماعة التبديع، ومن نصر حركة حماس ضد عدوان اليهود؛ فهو منحرف يلمع المبتدعة، ومن تضامن مع جماعة الإخوان ضد البطش السيسي فهو إخواني محترق .. !
لا تضامن ولا تناصر؛ والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 72، 73]
إن ترك الهجرة كان قبل الفتح من كبائر الذنوب، ومع ذلك لم يسقط وجوب نصرة المتلبسين به حين يستهدفهم العدو، فمن أين جاء البعض بهذا الحكم المنحرف: خذلان جماعة إسلامية بسبب أخطاءها؟!!
إن المستفيد الوحيد من هذا الواقع هم أعداء الدين وأعداء الدعوة إلى الله؛ الذين يقتاتون على مائدة: فرق تسد، ويراهنون على فشل رسالة الدعوة بتنازع أهلها ..
والعجيب أن البعض يضفون شرعية على هذا الانحراف المنهجي؛ بذريعة مشروعية هجر المنحرف، وأن أخطاءه توجب مقاطعته!
وقد تقرر في العلم أن الهجر استثناء اضطراري وليس أصلا غالبا، وحكم نسبي وليس مطردا، ولا يشرع إلا لأحد سببين:
قال الشيخ الألباني رحمه الله: “لو فتحنا باب المقاطعة والهجر والتبديع؛ للزم أن نعيش في الجبال، الهجر لا يحسن أن يطبق؛ لأن المبتدعة والفساق هم الغالبون، ..
إذا انحرف منحرف: ترفقوا به، انصحوه، صاحبوه، فإذا يُئس منه أولا، ثم خشي أن تسري عداوته إلى غيره ثانيا؛ يقاطع إذا غلب على رأيه أن المقاطعة هي العلاج، وإنما واجبنا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]”.اهـ[3]
فالأخطاء؛ السبيل فيها هو التناصح والاجتهاد في تصحيحها برفق وحكمة، أما مقابلتها بالهجر والتدابر فلا يصلحها، بل يزيد ترسيخها وانتشارها وتمسك أصحابها بها.
إن أولى الناس بأخلاق الإسلام هم الدعاة والذين يعملون للتمكين لهذا الدين ليخرج البشرية من الأوحال التي غرقت فيها؛ أوحال الجهل والظلم ..
ولا يجمل بهم وهم يتحملون هذه المسؤولية؛ أن يقعوا في جهل بعضهم على بعض بالتفرق، وظلم بعضهم لبعض بالتطاحن، وظلم الدعوة بترك التعاون ..
فهذا خلاف ما دلت عليه النصوص الشرعية والتأصيلات المرعية لأئمة الدعوة والإصلاح؛ ومنها: التأصيل المنقول عن الإمام الألباني رحمه الله تعالى.
وهو ما أكده غيره من أئمة السلفية المعاصرة:
جاء في مجموع فتاوى ومقالات الإمام ابن باز رحمه الله (8/ 237):
“يتساءل كثير من شباب الإسلام عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية، والالتزام بمنهج جماعة معينة دون سواها؟
فأجاب رحمه الله تعالى:
“الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق؛ قال الله عز وجل، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يلتزم بمنهج أي جماعة لا إخوان مسلمين ولا أنصار سنة ولا غيرهم، ولكن يلتزم بالحق.
وإذا انتسب إلى أنصار السنة وساعدهم في الحق، أو إلى الإخوان المسلمين ووافقهم على الحق من دون غلو ولا تفريط؛ فلا بأس“.
وفي (ج 5/ص 272):
“هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين، ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله، وأن لا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها”.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 238) / الفتوى رقم (6280):
السؤال: الجماعات والفرق الموجودة الآن أقصد بها جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة التبليغ، وجماعة أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية، والسلفيين، ومن يسمونهم التكفير والهجرة، وهذه كلها وغيرها قائمة بمصر؛ أسأل ما موقف المسلم منها؟ وهل ينطبق عليها حديث حذيفة رضي الله عنه: “فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك” رواه الإمام مسلم في الصحيح؟
الجواب: كل من هذه الفرق فيها حق وباطل وخطأ وصواب، وبعضها أقرب إلى الحق والصواب وأكثر خيرا وأعم نفعا من بعض؛ فعليك أن تتعاون مع كل منها على ما معها من الحق وتنصح لها فيما تراه خطأ، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك”[4].
وجاء في الفتوى رقم (6250):
“كل فرقة من هؤلاء وغيرهم فيها خطأ وصواب، فعليك بالتعاون معها فيما عندها من الصواب، واجتناب ما وقعت فيه من أخطاء، مع التناصح والتعاون على البر والتقوى”اهـ
إن ما تقدم من الآراء الدعوية والتأصيلات المنهجية لأئمة الدعوة السلفية؛ يؤكد انحراف التيارات المدخلية التي أضحى من سماتها: تعميق وترسيخ القطيعة بين التيارات والجماعات الإسلامية، واعتبار من يسعى لإقامة واجب التعاون والتناصر؛ (إخوانيا) منحرفا و(حركيا متلونا) (يلمع المبتدعة) .. !
هكذا تمت برمجة العقلية (المدخلية): لا يمكن أن تتصور سلفيا يتعاون مع حركي، ولا طالب علم يتواصل مع جماعة أو حركة، ولا داعية يشجع سياسيا إسلاميا، ولا عالما يعمل إلى جانب تيار سياسي ذي مرجعية إسلامية ..؛ فمن فعل فقد (تلون) وانحرف ..
[1] سلسلة الهدى والنور 209/27: 44: 00
[2] راجع: “إضاءة الشموع” للشيخ مشهور سلمان وفقه الله.
[3] “منهج الشيخ ناصر الدين” ص 91
[4] توقيع: الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز / نائب الرئيس: عبد الرزاق عفيفي ..
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI