تاريخ النشر : 2/01/2016
عدد المشاهدات : 9483
الطريقة البودشيشية: دراسة نقدية
من أبرز الطرق الصوفية المنتشرة في المغرب الطريقة أو الزاوية البودشيشية؛
وهي إحدى الطرق المتفرعة حديثًا عن الطريقة القادرية المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت561هـ/1166م)، واكتسبت الطريقة اسم البودشيشية “بعد أن انتقلت فروع القادرية إلى المملكة المغربية، وقد ظهرت التسمية بالضبط في حياة الشيخ سيدي علي بن محمد، أحد أجداد الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيشي (الشيخ الحالي للطريقة)، وقد لقب هذا الجد بهذا اللقب؛ لأنه كان يطعم الناس طعام الدشيشة أيام المجاعة بزاويته، فاشتُهر بذلك، وعرفت الطريقة منذ ذلك الوقت بالطريقة القادرية البودشيشية[1].
والدشيشة أكلة معروفة في المغرب، ويتم إعدادُها من الشعير بعد أن يتم طحنه وتحويله إلى حبات خشنة، وتعرف أيضًا باسم “البلبولة”، وقد يطلق على الطريقة أيضًا اسم “البوتشيشية”.
نشأة الطريقة ومؤسسها وشيوخها:
نشأتِ الطريقةُ البودشيشية منتصفَ القرن التاسع عشر الميلادي، في بقعة تبعد نحو أربعة كيلومترات عن قرية مدّاغ الواقعة على بعد نحو 15 كم إلى الغرب من مدينة بركان التابعة لإقليم بركان الواقع شمال شرق المملكة المغربية.
وتأسست هذه الطريقة على يد “العباس بن المختار القادري البودشيشي” المولود في بداية القرن الرابع عشر الهجري، وكان أميًّا لا يعرف الكتابة أو القراءة، وليس لديه زادٌ يُذكر من العلوم الشرعية [2].
وقد قاده جهله إلى الاعتقاد بعقيدة الحلول حيث يؤمن أن الله يحلُّ في بعض مخلوقاته، وأُشربت قلوبُ أتباعه ومريديه بهذه العقيدة الباطلة أيضًا، واعتقدوا أن (الله يحل في شيخهم في بعض الأوقات؛ فيخرون عند ذلك للشيخ سجدًا، ويقولون: هذا الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا)[3].
وبعد حياة استمرت 82 سنة عاشها على تلك العقيدة التي ضلَّل بها أتباعَه من بعده، تُوفِّي العباس البودشيشي في منتصف ذي الحجة عام 1391 للهجرة (1972 ميلادية)، وضريحُه موجود في زاوية الطريقة بـ “مداغ”.
رحل الرجل وخلَّف وراءه طريقةً زاغتْ عن سبيل الحق وتنكبتْ طريق الكتاب والسنة، وتزعم الطريقة بعده ولدُه المدعو “حمزة” – شيخ الطريقة الحالي- المولود عام 1922م بقرية مداغ.
وقد اجتهد الرجل منذ أن تقلد مشيخة البودشيشية في نشر الطريقة وتوسيع رقعتها وأتباعها داخليًّا وخارجيًّا، حتى باتت البودشيشية الآن واحدة من أبرز الزوايا وأكثرِها حضورًا وقوةً على ساحة المشهد الصوفي في المغرب، ويصف حمزة القادري البودشيشي عمله في تطوير الطريقة بقوله: (تقلدت منذ سنة 1972م مهمة الإرشاد في الطريقة القادرية البودشيشية، فجدَّدت أذكارها ونظمت سيرها مما زاد في إحيائها وتنشيطها، فتوسعت دائرتُها، وكثُر معتنقوها في المغرب والخارج)[4].
وخلافًا لما كانت عليه الطرقُ الصوفية في المغرب من استقطاب الأميين وعوام المريدين، حرص “حمزة” على استقطاب النخب المثقفة والأطر العليا[5] في المغرب وخارجه من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعيين ومفكرين ومثقفين، ويبدو أن رواج هذه الطريقة بين هذه النخب والأطر العليا في المغرب يرجع إلى ما تقدمه الطريقة من نموذج “تدين ناعم”[6] يتميز بكونه تدينا فرديًّا بسيطًا يعمل في كنف الدولة ويحظى بدعمها؛ الأمر الذي فتح الباب أمام الطريقة لتعزيز وجودها وانتشارها الاجتماعي؛ وفي المقابل، تستفيد الدولة من هذا الانتشار لمواجهة تنامي الحركات الإسلامية والتيارات السلفية.
ولا نغفل بعد ذلك عن أسباب رئيسة في انجذاب الناس إلى الطرق الصوفية بشكل عام، وهو ما تقدمه لهم من “تدين زائف” يوهم المُريد أنه على طريق الإسلام الصحيح، وهو غارق في البدع والشركيات والخرافات من حيث لا يدري، كذلك حالة “التغييب” عن الواقع التي يعيشها الطرقيون تجعل الناس يفرون من واقع حياتهم الصعب وظروفهم المعيشية القاسية إلى هذه الأوهام والخرافات.
كل هذه أسباب تهيأت للطريقة البودشيشية فانتشرت انتشارًا يكاد يعم أرجاء المغرب إلا أنه تزداد كثافة مريديها في بعض المناطق من قبيل: بركان، أحفير، وجدة، الرباط، سلا، الدار البيضاء، مراكش، أغادير، فاس، مكناس، وبني ملال، كما تجاوزت الطريقةُ حدودَ المملكة المغربية لتصل إلى فرنسا، بلجيكا، بريطانيا، إيطاليا، إسبانيا، الولايات المتحدة، وإلى بعض بلدان آسيا كالهند وباكستان وتايلاند، وحتى وصلت إلى بعض بلدان الخليج كالبحرين وقطر.
عبد السلام ياسين وجماعته:
ومن أشهر المنتسبين إلى الطريقة البودشيشية أو بالأحرى خريجي هذه الزاوية الأستاذ “عبد السلام ياسين” مرشد جماعة “العدل والإحسان”؛
فقد رافق ياسين مؤسسَ البودشيشية (العباس بن المختار القادري البودشيشي) بعد سنوات طويلة قضاها ضحية الماركسية الفرويدية[8]، حتى أصبح واحدًا من المبرَّزين في الطريقة وأحد أتباعها الناشطين الذين ساهموا في نشرها في البلاد، ولما مات العباس خلَفَه ابنُه حمزة في مشيخة الطريقة، (ويقال: إن عبد السلام ياسين كان على وعد من العباس أن يورثه المشيخة بعد موته، ولكنه لما تُوفِّي وجدوا وصيته لابنه حمزة، ويقال: هذا سبب فراق عبد السلام ياسين لهم)[9].
وقد صرح شيخ الطريقة الحالي بأن عبد السلام ياسين (ظل واحدًا من مريدي الزاوية بعد وفاة والدي سيدي العباس، وبقي في الزاوية لمدة ثلاث سنوات وكنتُ خلالها شيخَه، قبل أن يقرر الخروج منها بمحض إرادته)[10].
وألمح إلى سبب مغادرة ياسين للزاوية بقوله: (كان يميل أكثر إلى السياسة وكان يحاول تسييس الزاوية من الداخل، فيما جوهر التصوف يقوم على تربية الروح بدل الدخول في متاهات السياسة).
والذي يظهر أن ياسين لم ينفصل عن البودشيشية إلا شكليًّا أو انتماء ظاهريًّا فقط لكنه بقي مشبعًا بالفكر الصوفي مُثنيًا عليه رافضًا التبرؤ منه، يقول في كتابه (الإحسان) المنشور عام 1998م مثنيًا على شيخه العباس البودشيشي: (كنت كتبت منذ خمسة عشر عامًا وأنا يومئذ لا أزال في بداياتي عن صحبتي لشيخ عارف بالله رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عنا خيرًا …).
وبعدها بأسطر يضيف قائلًا: (الآن أعود إلى الموضوع لا لأتبرأ من الصوفية كما ألح علي بعضهم، ولا لأتحمل تبعات غيري، لكن لأقول كلمة الحق التي لا تترك لك صديقًا …).
وادعى في هذا الكتاب أيضًا (أن جميع العلماء تلامذة الصوفية وأنهم تربوا في أحضانهم، وأن من كان منهم متشددًا وقاسيًا على الصوفية رجع في آخر عمره وتتلمذ عليهم وعاش في أحضانهم، يقتبس من أنوارهم ويعيش في روحانيتهم)[11].
فالحاصل أن عبد السلام ياسين لم ينفصل عن زاويته البودشيشية تبرؤًا من الفكر الصوفي أو إنكارًا لما هم عليه من جهالات وضلالات، ولكنه انفصل عنهم بعد أن فقد أمله في أن يصبح شيخًا للطريقة خلفًا لشيخه “العباس بن المختار”، ومن هنا غادر البودشيشية ليؤسس جماعة “العدل والإحسان” التي هي أشبه ما تكون بطريقة صوفية، وذلك جريًا على عادة الصوفية وسنتهم المتبعة في (أنه كلما أوهم الشيطانُ أحدَهم أنه صار من الواصلين، وسوَّل له غرورُه أنه أصبح شيخًا مربيًا، إلا وانشق عن طريقة شيخه بإنشاء طريقة جديدة، يصبح هو شيخها المتربع على كرسي ضلالتها)[12].
وقد رفع عبد السلام ياسين “لواء التصوف”؛ والذي يقرأ كتبه؛ خاصة (الإسلام بين الدعوة والدولة)، و(الإسلام غدًا)، و(الإحسان)، يقف على ذلك ..
انحرافات الزاوية البودشيشية :
كان من النتائج الطبيعية لابتعاد الطريقة البودشيشية ومريديها عن الكتاب والسنة، أن أوغلوا في ضلالات وانحرافات عقدية وتعبُّدية عديدة، نحاول أن نرصد في السطور التالية أبرزها:
معروف أن عامة الطرق الصوفية تبالغ في مشايخها وتضعهم في مراتب تجاوز الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، لكن الزاوية البودشيشية لها في ذلك الشأن النصيبُ الأكبر والحظُّ الأوفر؛ حيث يتسابق المريدون على شرب الماء الذي يغسل به الشيخ يديه تبركًا به، كما يفعلون الشيء نفسه مع قصاصات شعر شارب الشيخ أو لحيته، حتى إنهم ليحتفظون بتلك القصاصات في محافظهم طلبًا لبركتها المزعومة.
ويسِم شيخُ البودشيشية الحالي (حمزة) نفسه بأنه “الشيخ المربي” الذي يجب على المريد اتباعه ولا يسعه مخالفة أوامره ونواهيه، وروج هذه الكذبة على مريديه بزعمه أن (النبوة خُتمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبقي يحملها أهلُ الله، ومنهم القطب الرباني، الذي هو الشيخ المربي)[15].
وللشيخ المربي أنوار يقتبسها المريدون من شيخهم وتصعقهم أيضًا، (فهم ينظرون إليه ويتأملون في وجهه ثم يُصعقون أمامه إذا كانوا بحضرته، وإذا أراد أحدهم الصلاة يضع صورة الشيخ أمامه.
كما أن الشخص منهم يكون جالسًا ثم يصيح صيحة ثم يغيب ويصعق، فيزعمون أنه نفذت إليه الأنوار، ولربما قالوا: أنوار الشيخ، فاستحضار الشيخ عندهم في جميع حركاتهم وسكناتهم ضروري)[16].
ومن عجيب ما ابتدعه شيخ الطريقة الحالي (حمزة) لكي يُحكِمَ قبضته وسطوته على أتباعه ومريديه، أنه استخرج من اسمه المؤلف من أربعة أحرف أربعةَ معانٍ: فمن حرف (الحاء) استخرج معنى (احترام)، ومن حرف (الميم) استخرج معنى (امتثال)، ومن حرف (الزاي) استخرج معنى (زيارة)، ومن حرف (التاء) استخرج معنى (ثبات)، ومع ما في هذه الاستخراجات من تعنت وتعسف إلا أنها راجت على أتباعه رغم أنهم معدودون من النخب الثقافية.
ومع هذا الغلو الممنوع شرعًا في شيخ الطريقة الحالي والذي قد يُورد صاحبَه المهالك حيث يصل ببعضهم الأمر إلى الركوع وأحيانًا السجود إذا وقف الشيخ ورغم ذلك فإن الرجل “لا يحضر جمعة ولا جماعة”، حسبما نقل الباحث عبد الله بن سعيد أعياش عن أحدِ علماء تطوان، وأستاذ آخر من أهل الرباط ممن تابوا من ضلال هذه الطريقة[17].
ومن مغالاتهم الشديدة في شيخ الطريقة أن أتباع البودشيشية في مختلف البلدان يتوجهون في بعض المواسم إلى مقر الزاوية في “مداغ” ويقطعون المسافات الطويلة بالآلاف فيما يشبّهونه بـ”الحج” وذلك رغبةً في رؤية الشيخ وطلبًا لبركاته التي هي من أغلى أمنيات المريدين حتى إن أحدهم ليقول وقد شد الرحال إلى مقر شيخ الطريقة: (كي ننظر إلى وجهه الكريم، ونمتح من معين بركاته وعرفانه الذي لا ينفد)[18]
ومن طريف ما يُحكى في هذا الشأن أنه في العام 2009م، عندما اجتاحت “إنفلونزا الخنازير” بلدانًا كثيرة حول العالم، احتجب شيخ الطريقة البودشيشية عن مريديه الذين لم يتمكنوا من الدخول إليه لنيل بركاته كالمعتاد، ولم يظفروا في زيارة هذا العام إلا بإلقاء نظرة عليه عبر نافذة تطل على غرفة يأخذ فيها الشيخ حمزة مجلسه في وسطها!
وكل هذا الغلو في شيخ الطريقة والإفراط في تعظيمه لدى البودشيشيين، هو مما حذَّر الله منه ورسولُه صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وفي الآية الأخرى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] (أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تُطْروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه …)[19].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مَن هو منزلةً ومكانةً مِن الله عز وجل يقول محذرًا أصحابه: (لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)[20].
بل لما قال له رجلٌ: يَا مُحَمَّدُ، يَا سَيِّدَنَا، وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَيَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: (أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)[21].
فكيف بمَن هو دونه بمراحل كثيرة يرضى أن يرتقي بنفسه هذا المرتقى الصعب ويُنزلها غير منزلها على هذا النحو.
وإنك لتعجب كيف يرضخ له ناسٌ معدودون من النخب الثقافية هذا الرضوخ وينقادون له كالقطعان دون إعمال عقل أو وقوف عند فطرة سليمة.
ويزداد الأمر شناعةً وقبحًا عندما يعتقد المريدون في شيخهم اعتقادات تجعل منه أشبهَ بإله ـ عياذًا بالله من ذلك ـ فتراهم يركعون ويسجدون له، ويصرفون ما لا يجوز صرفُه من العبادات إلا لله عز وجل وحده لغيره من بشرٍ لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله.
وفي الحديث أنه لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟) قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ)[22].
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى أن يقع أصحابُه في صرف السجود لغير الله عز وجل، ولو كان ذلك له صلى الله عليه وسلم، فكيف يرضاه لنفسه شيخُ البودشيشية أو غيرُه من شيوخ الصوفية؟!
أما عن تبرك مريدي الزاوية البودشيشية بشيخهم وآثاره، فإنه من المقرر شرعًا أنه (لا يجوز التبرك بأحدٍ غيرِ النبي صلى الله عليه وسلم لا بوضوئه ولا بشعره ولا بعرقه ولا بشيء من جسده، بل كل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله في جسده وما مسه من الخير والبركة؛ ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بأحد منهم لا في حياته ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم فدل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه)[23].
برجوعنا إلى موقع الزاوية البودشيشية الرسمي على الشبكة العنكبوتية، وجدنا أن للطريقة أحد عشر وردًا رتبها لهم شيخ الطريقة؛ منها الفردي ومنها الجماعي، وهي:
1- الورد العام (ذكر فردي سري).
2- وظيفة ما بين العشاءين (ذكر جماعي جهري).
3- وظيفة ما قبل الفجر (ذكر جماعي جهري).
4- وظيفة الصبح (ذكر جماعي جهري).
5- لطيف ابن حجر 4444(ذكر فردي سري).
6- اللطيف الكبير (ذكر جماعي سري).
7 – أذكار التقوية.
8- أذكار الصدقات.
9- ذكر المُخلَصين (ذكر جماعي جهري يتم كل يوم جمعة بعد صلاة العصر).
10- أذكار الاعتكافات.
11- الذكر الفردي للبراعم (من 7 إلى 12 سنة).
وهذه الأوراد ـ كما يقول موقع الطريقة ـ (تختزن طاقة نورانية قوية تطرد الغفلة عن القلب، وتحرر الشعور من التعلق بما سوى الله تعالى).
ولكن لكي (تتفجر هذه النورانية الكامنة فيها وجب على المريد أن يستوفي الشروط التالية:
-الاعتقاد التام في ولاية الشيخ العارف بالله سيدي حمزة بن العباس واستفراده وحده بالتربية.
-عدم إضافة أية أذكار منظمة أخرى إلى أوراد الطريقة.
-تلاوة الأوراد بحضور تام مع الله وبطهارة تامة) أ.هـ.
“الأوراد” هي مجموعة أدعية وكلمات يجمعها شيخ الطريقة للمريدين ليرددوها في أوقات معينة وبطريقة محددة، وبعدد معروف، وهذه “الأوراد” من لوازم الطرق الصوفية، فلا طريقة بغير ورد تتميز به؛ ولهذا قالوا: “الطريقةُ بأورادها”.
وما عليه أهل العلم الثقات أنه لا يجوز متابعة هؤلاء الطرقيين فيما يخترعونه من أوراد وأذكار غير مشروعة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)[24]، والأصل في العبادات التوقيف على ما يرد في الشرع.
وما أجمل ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لا ريبَ أنَّ الأذكارَ والدعوات مِن أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتِّباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعيةُ والأذكارُ النبويَّةُ هي أفضل ما يتحرَّاه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمانٍ وسلامةٍ، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنها لسان، ولا يحيط بها إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرَّمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثرُ النَّاس، وهي جملةٌ يطول تفصيلها.
وليس لأحدٍ أن يَسُنَّ للنَّاسِ نوعًا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادةً راتبةً يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداعُ دينٍ لم يأذن الله به؛ وأما اتخاذ وردٍ غيِر شرعيٍّ، واستنانُ ذكرٍ غيرِ شرعيٍّ، فهذا مما يُنهى عنه، ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غايةُ المطالبِ الصحيحةِ ونهايةُ المقاصدِ العليَّة، ولا يَعدلُ عنها إلى غيرها من الأذكارِ المحدَثة المبتدعةِ إلاّ جاهلٌ أو مفرِّطٌ أو متعَدٍّ)[25] ا.هـ.
كما أن هذه “الأوراد” لا تخلو في الغالب من تخصيص بوقت أو عدد أو كيفية محددة، كما نرى في أوراد الطريقة المشار إليها قريبًا، وكل ذلك إن لم يكن قد ثبت بدليل صحيح فإنه داخل في البدعة؛ (فمن اتخذ لنفسه وردًا لم يثبت لفظُه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدد له عددًا معينًا أو التزم فعلَه في وقت معين فقد وقع في البدعة الإضافية؛ لكون العمل مشروعًا في أصله، لكن لحقته البدعة من جهة اختراع الكيفية أو تحديد المقدار والزمن)[26].
وما يسوقه البودشيشيون من فضيلة لأورادهم بأنها (تختزن طاقة نورانية قوية تطرد الغفلة عن القلب وتحرر الشعور من التعلق بما سوى الله تعالى)، فهذا من تلبيسهم على المريدين لجذبهم إلى تلك “الأوراد” غير المشروعة؛ وإن كانت هذه الأوراد تفعل شيئًا فإنها إنما تزيد القلب ظلمةً فوق ظلماته وغفلةً على غفلاته وتجلعه أسيرًا للهوى والشيطان.
ومن انحرافهم في تلاوة هذه الأوراد أنه لابد لهم من (استحضار صورة الشيخ عند قراءة تلك الأذكار والأوراد المخترعة، الأمر الذي أدى بالمريدين البوتشيشيين إلى اتخاذ صور فوتوغرافية له، ووضعها أمامهم أثناء الذكر؛ لأنه ـ حسب زعمهم الباطل ـ لا يحصل التوجه من المريد إلى الله إلا بوضع صورة الشيخ الفوتوغرافية أمامه)[27].
على حد افترائهم الذي يسعون به إلى إقناع المريدين بالالتجاء إليهم والاستعانة بهم والتسليم لهم تسليمًا كاملًا من أجل تحقيق السيطرة الكاملة على الأتباع والمريدين، فلا يستطيع أحدُهم أن يذهب يمينًا أو شمالًا إلا عن رأيه، حتى في قراءة هذه الأوراد لابد من أن يضع الشيخ نصب عينينه وإلا حبِطَ عملُه ورُدَّ عليه وردُه!
ومن عجيب انحرافاتهم في باب العبادات أنهم (يصلون الصلاة خفيفة لا يتمون فيها الركوع والسجود، ويزعمون أن في الصلاة نورًا، وإذا أطالوا فيها فإنه يحرقهم)[28].
فأين هؤلاء من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يأمر بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مَثَلَ الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئًا[29]؛ وكان يقول فيه: (إنه من أسوأ الناس سرقةً)[30]، وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، وأمر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في الركوع والسجود والجلوس والسجود[31].
وقد رأى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلًا ـ يفعل كما يفعل هؤلاء البودشيشيون ـ لا يُتِمُّ ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم؛ [ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم])[32]؛
أفلا يتدبر هؤلاء هذا الوعيد الشديد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كيف يرضون لأنفسهم أن يعبثوا بالصلاة التي هي أعظم شعائر الدين، ألا يخشون أن يلقوا ربهم على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه واحدة من الانحرافات التي انفردت بها البودشيشية عن سائر الطرق وإن كانت الطرق جميعها ربما تشترك في مقدار منها، فيلاحظ أن هذه الطريقة تلغي التفكير تمامًا لدى المريد المنتسب لها، حتى إنه إذا جاء شخص جديد إلى الشيخ ليسأله عن الطريقة، فلا يزيد عن أن يقول له: (أن تسلم لما ترى، وأن تبعد عقلك، وأن تلزم وردًا فترى عجبًا)، ويصف طريقته هذه بقوله: (هذه طريق الحال، لا تعرف بالمقال، ولا تدرك بالأعمال، هي من فيض الله)[33].
ومن مظاهر القضاء على عقل المريد البودشيشي أنه يلزمه استشارة شيخ الطريقة في جميع أموره وفي شأنه كله، سواء كانت أمورًا تخص دينه أو دنياه، وحتى لو كانت أمورًا شرعية ثابتة بالنصوص القطعية، (فلا يقوم المريد بذكر، أو قراءة قرآن، أو حج، أو عمرة إلا بإذن الشيخ، كما لا يباشر أمرًا من أمور دنياه: من زواج، أو طلاق، أو سفر، أو التحاق بوظيفة، أو تركها إلا بإذن من الشيخ أيضًا)[34].
وهذه إحدى المفارقات فرغم أن البودشيشية تحرص أشد الحرص على استقطاب النخب الثقافية من ذوي الشهادات العليا وأصحاب التعليم الجامعي، إلا أنها في الوقت نفسه تقضي على عقولهم بحيث تُسلم هذه الجموعُ الغفيرة زمامَ أمورها لعقل رجل واحد يدبر لها أمور دنياها وآخرتها، وهذا الرجل ربما لو رآه أحدُنا في إحدى حلقاتهم وهو يهتز رقصًا ويتمايل طربًا لظنه مجنونًا لا يُحسِن تدبير شأن نفسه، فكيف بشئون الآلاف من مريديه.
وبعد أن وقفنا على شيء من حقيقة الزاوية البودشيشية التي تعد الأكثر انتشارًا وحضورًا في المغرب في ظل ما تحظى به من احتضان ورعاية رسمية من الدولة، ندرك مدى خطورتها على المجتمع المغربي خاصة والمجتمعات الأخرى التي ينتشر فيها أتباعُها بشكل عام، خاصة أن جهات سياسية تستغل شعبية هذه الطريقة في الحد من انتشار الحركات الإسلامية السنية، أو المناوئة لها سياسيًّا.
توقيع:
الأستاذ مصطفى محمود
مع اختصار يسير
[1]كما جاء في موقع الطريقة القادرية البودشيشية ردًّا على سؤال عن موعد ظهور الطريقة ضمن قسم “منبر الأسئلة والأجوبة”.
[2] يراجع ما سطره الباحث عبد الله بن سعيد إعياش في رسالته للماجستير (الطرق الصوفية المعاصرة في المغرب الأقصى، عرض ومناقشة)، الباب الأول حيث خصص الفصل الخامس من هذه الرسالة للطريقة البودشيشية، ص(105-118).
[3] المصدر السابق.
[4] حوار صحافي مع شيخ الطريقة البودشيشية (حمزة)، نشرته صحيفة المساء المغربية في 22 مارس 2009م.
[5] يكفيك أن تعلم أن وزير الأوقاف والشئون الإسلامية في المغرب (أحمد التوفيق) هو من المنتسبين للطريقة البودشيشية.
[6] حوار مع د.محمد مصباح، باحث في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، نشرته صحيفة “الوطن الآن” في عددها رقم 441.
[7] الحوار السابق نفسه.
[8] روى الشيخ محمد بو خبزة الحسني في تقديمه لكتاب (مشايخ الصوفية: الانحراف التربوي والفساد العقدي، عبد السلام ياسين أستاذا ومرشدًا)، موقفًا يكشف عن مدى افتتان ياسين بهذه الأفكار، قال: (وحدثني الأستاذ الكبير السيد أحمد الشرقاوي (إقبال) المراكشي رحمه الله، وكان له مزيد اتصال بالشيخ (يعني عبد السلام ياسين)، أنه سأله وقت افتتانه بالتقدم الأوروبي أنه لو خير بين الجنة وأمريكا ماذا يختار؟ فأجاب: أمريكا)، ص(6-7).
[9] من مقال للشيخ محمد السحابي بعنوان (في البناء التصوري لجماعة العدل الإحسان، الحلقة الأولى)، منشور بجريدة التجديد في 29/3/2006م.
[10] هذا النقل والذي يليه مباشرة من حوار شيخ البودشيشية مع جريدة المساء المغربية، المشار إليه آنفًا.
[11] مقال (في البناء التصوري لجماعة العدل الإحسان، الحلقة الأولى)، مصدر سابق.
[12] الطرق الصوفية المعاصرة في المغرب الأقصى، عرض ومناقشة، مصدر سابق.
[13] (مشايخ الصوفية: الانحراف التربوي والفساد العقدي، عبد السلام ياسين أستاذًا ومرشدًا) لأبي عبد الرحمن بلعويدي، ص(10).
[14] سلسلة ردود علي عبد السلام ياسين، الشيخ المغراوي، والإجمال المذكور نورده نقلًا عن الباحث عبد الله بن سعيد أعياش في رسالته للماجستير المشار إليها آنفًا.
[15] رسالة الماجستير نفسها.
[16] مقال الشيخ محمد السحابي المشار إليه آنفًا.
[17] (الطرق الصوفية المعاصرة في المغرب الأقصى، عرض ومناقشة) رسالة ماجستير، مصدر سابق.
[18] نص كلام هذا المريد منشور في خبر نشرته صحيفة المساء بتاريخ (07/07/2009م) تحت عنوان (البودشيشيون يتبركون بالشيخ حمزة من وراء حجاب خشية عليه من إنفلونزا الخنازير).
[19] تفسير ابن كثير، (3/ 159).
[20] رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}، (3261)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[21] رواه الإمام أحمد في مسنده، (12551)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[22] رواه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، (1853)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (1503).
[23] كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، (7/65).
[24] رواه أبو داود،كتاب الوتر، باب الدعاء، (1481)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1479).
[25] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (22/510-511).
[26] مستفاد من فتوى بعنوان (ضوابط الأوراد الشرعية)، موقع “الإسلام سؤال وجواب” لمشرفه العام الشيخ محمد صالح المنجد.
[27] الطرق الصوفية المعاصرة في المغرب الأقصى، عرض ومناقشة، رسالة ماجستير، مصدر سابق.
[28] مقال (في البناء التصوري لجماعة العدل الإحسان، الحلقة الأولى)، مصدر سابق.
[29] رواه الطبراني في الكبير، وأبو يعلى في مسنده، وحسَّنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (528).
[30] رواه ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط، وحسَّنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (533).
[31] رواه البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم فى الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، (757)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، (911).
[32] رواه الطبراني في الكبير، وأبو يعلى في مسنده، وحسَّنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (528).
[33] الطرق الصوفية المعاصرة في المغرب الأقصى، عرض ومناقشة، رسالة ماجستير، مصدر سابق.
[34] المصدر السابق.
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI