أنشطة وأخبار

أدب السلف في الاختلاف في مسائل الاجتهاد

تاريخ النشر : 12/04/2015

عدد المشاهدات : 998


حماد القباج

 مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام؛ حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام.

قال ابن عباس: فقال عمر: “ادع لي المهاجرين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام؛ فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه.

وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء.

فقال: “ارتفعوا عني، ثم قال: “ادع لي الأنصار”، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم.

فقال: “ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح”.

فدعوتهم له؛ فلم يختلف عليه منهم رجلان؛ فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء؛ فنادى عمر في الناس: “إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه”.

فقال أبو عبيدة: “فرارا من قدر الله”؟

فقال عمر: “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم؛ نفر من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله”؟!

قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبا في بعض حاجاته؛ فقال: “إن عندي من هذا علما؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه”.

فحمد الله عمر ثم انصرف.

هكذا أورده الحافظ ابن عبد البر في التمهيد؛ ثم قال في استنباطاته منه (التمهيد (367/8)):

وفيه دليل على أن المسألة إذا كان سبيلها الاجتهاد ووقع فيها الاختلاف لم يجز لأحد القائلين فيها عيب مخالفه ولا الطعن عليه؛ لأنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه.

إلى الله الشكوى وهو المستعان على أمة نحن بين أظهرها تستحل الأعراض والدماء إذا خولفت فيما تجيء به من الخطأ!!

وفيه دليل على أن المجتهد إذا قاده اجتهاده إلى شيء خالفه فيه صاحبه؛ لم يجز له الميل إلى قول صاحبه إذا لم يبن موقع الصواب فيه ولا قام له الدليل عليه.

وفيه دليل على أن الإمام والحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل كتاب ولا سنة غير اجتهاده كان عليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه.

وفيه دليل على أن الاختلاف لا يوجب حكما وإنما يوجبه النظر، وأن الإجماع يوجب الحكم والعمل.

وفيه دليل على إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام؛ ألا ترى إلى قول أبي عبيدة لعمر رحمهما الله تعالى: “تفر من قدر الله”.

فقال: “نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله”.

ثم قال له: “أرأيت ..”.

فقايسه وناظره بما يشبه في مسألته.

وفيه دليل على أن الاختلاف إذا نزل وقام الحجاج؛ فالحجة والفلج بيد من أدلى بالسنة إذا لم يكن من الكتاب نص لا يختلف في تأويله؛ وبهذا أمر الله عباده عند التنازع أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه، فمن كان عنده من ذلك علم وجب الانقياد إليه”اهـ كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

قال العلامة مصطفى بن حمزة وفقه الله تعالى؛ في مقالته في الرد على المفتي المصري الذي أبطل صيام المغاربة:

“الأصل الذي يعرفه كل علماء الإسلام هو أن الخلافات الفقهية لا يجوز أن تكون موضعا للإنكار، وقد تأصلت لدى علماء المسلمين قاعدة ذهبية هي أنه: “لا إنكار في مسائل الخلاف”.

ويقول النووي عنها: “إن العلماء إنما ينكرون على ما اجتمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه”. [ شرح النووي لصحيح مسلم 2/23 دار الفكر بيروت ]

وهذه قاعدة سليمة وإن حاول البعض أن يفرغها من مضمونها ببعض الاستثناءات.

ويدعم القاعدة وبكل قوة أصل اجتهادي آخر مقرر في علم أصول الفقه هو “أصل التصويب الاجتهادي”؛ ومؤداه أن “كل مجتهد في القضايا الفقهية مصيب، بسبب أنه بذل جهده ووفى بما كان مطلوبا منه وهو الاجتهاد، أو بسبب أن لله حكما معينا في النازلة، لكن المجتهد ليس مكلفا بإصابته تحديدا”. [البرهان في أصول الفقه للجويني 2/1322].

ويؤيد القاعدة السابقة نظرية اجتهادية أخرى هي: “نظرية تكافؤ الأدلة فيما هو غير قطعي”. [جمع الجوامع للسبكي كتاب التعادل والترجيح].

والغريب أن هذه القواعد يعتمد أغلبها مذهب الشافعي الذي ينتسب إليه المفتي أكثر مما يعتمدها غيره. والشافعي هو وحده الإمام الذي له مذهبان في الفقه أحدهما قديم منشؤه في العراق، والآخر جديد قال به في مصر لما انتقل إليها. [ الفكر السامي 1/397 ] وهو الإمام الذي تميز أيضا بأن له قولين في مسائل ذكر المروزي أنها تبلغ سبع عشرة مسألة. [ شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي 2/1079] والشافعي هو الذي ينسب إليه القول: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.

ومن قبل الشافعي اختلف الصحابة في مسائل من الفقه، وعذر بعضهم بعضا، فاختلفوا في مدلول أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يصلي أحدهم العصر إلا ببني قريظة.

وخالفت عائشة رضي الله عنها بعض الصحابة، وجمعت فتاواها المخالفة في كتب خاصة منها: (كتاب الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة) للزركشي.

وخالف أبو بكر بقية الصحابة بموقفه من مانعي الزكاة، وخالف عمر الصحابة في قضايا كثيرة جدا، وخالفهم على الأخص في منع تقسيم الأراضي التي غنمها المسلمون في العراق، وفي قضائه بتركها بأيدي أهلها، وخالف عثمان الصحابة لما جعل يد الصانع يد ضمان بعد أن كانت تعتبر يد أمان، ولم يعتبر طلاق الرجل وتصرفاته المالية حالة مرضه المتصل بالوفاة، وخالف علي بقية الصحابة في قضية كان قد وافقهم عليها، فقال له عبيدة السلماني: “رأيك مع صاحبيك أحب إلينا من رأيك وحدك”.

ويمكن الوقوف على هذه الاجتهادات الخلافية في مصادر التشريع الإسلامي؛ مثل كتاب: [ الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد الحجوي الثعالبي ج 1/ 227 إلى 252 دار التراث القاهرة 1396].

وباعتماد قاعدة أن الإنكار لا يقع في غير القطعي المختلف فيه، استطاعت الأمة أن تجمع بين تنشيط الاجتهاد من جهة، والمحافظة على الوحدة الإسلامية من جهة أخرى، وحين يصر البعض على توظيف الاختلافات الفقهية، فإنه يسعى إلى تحويلها إلى أسباب للنزاع والتوتر والخصومة”اهـ كلام الأستاذ بن حمزة.