تاريخ النشر : 14/09/2015
عدد المشاهدات : 2034
مؤسسة ابن تاشفين
قسم الاستشارات الشرعية
هل موتى “رافعة الحرم” شهداء؟
السؤال:
راسلنا أحد الطلبة مستفهما عن واقعة في مدينة مراكش عقب حادثة الرافعة في الحرم المكي؛ وأن منتقداً انتقد على داعيةٍ مراكشي وَصْفَهُ قتلى الحرم بالشهداء؛ بناء على أن ذلك ليس من عقيدة السلف وأنه لا يشهد لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأن هذا الداعية أقر المنتقد على ذلك، واستجاب له بإزالة لفظة: “الشهداء”
فهل هذا الأمر سائغ؟
وأين وجه الانتقاد؟
جزاكم الله خير الجزاء ورحم الله والديكم وشيوخكم.
الجواب:
بِسْم الله والحمد لله وبعد:
فمثل هذه الوقائع تضعنا أمام أحوالٍ دعويةٍ تتعلق بالفهم الصحيح للدين والمعرفة المتقنة لعلومه التي تعين بتوفيق الله لحسن السداد فيه؛ وأن بعض التراكمات الدعوية أحدثت عندنا خللاً في كثير من قضايا العلم والدعوة؛ سواءً العامة أو الطلبة أو حتى بعض الشيوخ وبعض الدعاة وفق الله الجميع لرضاه؛ مما جعلنا نطلق صيحة نذير بوجوب بعض المراجعات والتأمل في بعض القناعات؛ وأن الوضع الدعوي العام والحركة العلمية في المغرب خاصة، وفي عموم الأمصار الشهيرة؛ كمصر والسعودية والأردن وغيرها؛ تحتاج ترتيب صفوف وتصفيف أوراق لا تهديم أصول ولا تصفية حسابات ..
بل كما قال جل ذكره:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [النور: 31]
وقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119]
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]
وهذه الحادثة المسئول عنها تُعَد من صغير الشواهد؛ وإلا فما أكثر البينات على ما نزعم من وجود الخلل العميق في كثير من التصورات ..
وأن هذا الخلل واقع في أبواب متعددة -قد بينا بعضها وسنبين بإذن الله ما نستطيع بعد بالشاهد والبرهان-؛ سواء في وسائل الفهم “كالدرس الأصولي والمقاصدي”، أو في جوانب النقل “كالدرس الحديثي”، أو في الجانب التطبيقي “كالدرس الفقهي أو التفسيري”؛ ناهيك عن طرق البحث لاستقراء ما هو منهجي وما ليس كذلك، وما هو من السنة ومذهب السلف وما هو جناية على السنة والسلفية؛ بل حتى في “الدرس العقدي”؛ يحتاج كثير منا لوقفات تأمل وترتيب؛ لا نسخا لمذهب السنة الحق العتيق؛ ولكن حماية لها من الفهوم الخاطئة أو القاصرة أو المضيقة …
وأما الضلال؛ فيجب إنكاره سواء فيك يا من يدعي التعتق والتحقق، أو في خصمك الذي تدعي عليه التفتق أو التفسق ..
فهذا المعترض المذكور في الاستفسار؛ تجرأ على من هو عنده في مثابة شيوخه بالتعقب لا بالاستفهام!
وهنا فرق عظيم يدل أحيانا على مدى “الخلل التربوي” الذي عند بعض العوام والطلبة؛ لأنه يكاد لسان حالهم يقول: نحن هم الشيوخ! لكثرة ما يعترضون وينتقدون ويصوبون ويخطئون ويقيمون ويجرحون ويعدلون؛ بل صار كثير من الدعاة لقمة سائغة لمريديهم من العوام؛ يحركونه كيف شاءوا وبتأثيرهم تتشكل عقليته ومواقفه الدعوية ولاء وبراءً ويخاصم العالَم ولا يخاصم مريديه!
وكان الأولى لهذا السائل أن يقول لذلك الداعية: “هل تفيدوننا علما في وصفكم … بالشهداء… أثابكم الله”؟؟
دون مزيد تدخل ولا تأثير على شخصية المجيب.
ثم إن قول السائل بأن هذا “مخالف لعقيدة السلف”؛ خطأ آخر أشد فظاعة؛ ويدل على ما نناشد إخواننا وشيوخنا من العلماء والدعاة والمصلحين إلى وجوب تداركه؛ قبل أن يتسع الخرق على الراقع أكثر ..
وإلا؛ فقد بلغ السيل الزبى، وتجاوز الحزام الثديين؛ حتى لا متى ولا أينَ!
فإن تحريم الحلال ومنع الجائز أشد من تحليل الحرام وتجويز الممنوع؛
وجعل اللمم صغيرة أو الصغيرة فاحشة أو الفاحشة كبيرة أو الكبيرة شركاً؛ كل ذلك تَعَدٍّ على الميزان الذي أمر الله به: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام} [الرحمن: 7 – 10]
فلن تَصلح للأنام أرضٌ إلا بالميزان “العدل”؛ وهذا من ذلك:
فجعل هذه المسألة من مسائل المعتقد تهويل وغلط؛ وخلطها بالشهادة لأحد بجنة أو نار تهويل وغلط؛ ونسبة القضية لمنهج السلف تهويل وغلط؛ وقد اجتمع في هذا الغلط القصور البين في أبواب من الشريعة فأعطانا هذه النتيجة السيئة:
-أخطاء
-ظلم
-جرأة
وإلا فالمسألة في أصلها تتعلق بباب الفضائل وما يرجى لعموم المسلمين من نيل فضل الله الخاص في بعض الأحوال ..
فلفظ الشهادة اسم شرعي -ككثير من الأسماء- يقتضي أحكاما في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا؛ لا تتأتى إلا به.
وهو لا يتأتى إلا بعلامات وضعها الشارع؛ فمن دخل في حَرَم تلك العلامات استحق ذلك الاسم لتنبني عليه تلك الأحكام؛ وبالأخص الأحكام الدنيوية الفقهية العملية التي تلزم الأحياء بفعلها نطقاً؛ وإجراءِ ما يترتب عليها فعلاً فهو التزام شرعي لله تعالى بين الميت ومن يقوم عليه من الأحياء ..
أما الجنة والنار فأحكام أخروية؛ نعم لها أسماء دنيوية ولكن لا للحكم بها ولكن لمطلق الرجاء الحسن للمؤمنين؛ وإلا فالأصل في أمور الآخرة بعد جميل الرجاء في الكريم سبحانه هو الخوف والوجل لنحو قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُم} [الأحقاف: 9]
فإذا كان هذا قول المصطفى المختار صلوات ربي وسلامه عليه؛ فما ظنكم بغيره ولو كان شهيد الصفين أو حبلى ذاتُ رُوحين؟
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه كلا السبيلين؛ فتارة يوسع لهم في الرجاء شهادة بالجنان، وتارة يضيق لهم حتى لا يتوسعوا في التمادح خشية أمانيِّ الأمان.
والأحاديث في ذلك كثيرة جدا..
وهي من ثنائيات الشريعة التي تحتاج حسن تفقه حتى لا يغلط في الترتيل ولا في التأويل ولا في التنزيل..
وقد أَحْكم علماؤنا كل ذلك رحمهم الله…
غيرَ أن مسألة الشهادة هذه خاصةً؛ كبرت عند بعض الشباب السلفي؛ في فترة مظلمةٍ من الصراع بين السلفيين والإخوان المسلمين نسأل الله أن يوحد صفوف جميع أهل السنة على الحق المبين؛ فنشأ بعضهم متوجساً منها كما يتوجس من كثيرٍ من العبارات وربما جعلها علامة على تصنيفات!!!
فورثها كثير من الأتباع جراء ما يسمعون مثلاً عن “سيد قطب” من الانتقاد الذي لا يكاد يخلو من المبالغة والتجني إلى درجة حرمانه من “لفظة شهيد” ..
ثم يلبس من يلبس بأننا لا نحكم لأحد بجنة ولا نار؛ لذا لا نقول عنه شهيدٌ!
وهذا تضليل للعوام يجعل ظلم قطب مباحاً بدعوى أن أمر الجنة توقيفي؛ فيوهم أن هذا هو ذاك!!
والحق أن بينهما ما بين السماء والأرض من البَوْنِ فقهاً وعقيدةً ومنهجاً؛
وبالله عليكم كيف يُستكثر لفظُ “تكرمة دنيوي ورجاء أخروي”؛ على رجلٍ قال كلمة حق عند سلطان جائر؟!
نعم؛ أصاب وأخطأ، وعلم وجهل .. ثم ماذا؟؟
ورحم الله الشيخَ المغراوي إذ قال عنه في كتابه “المفسرون بين التأويل والإثبات”:
“سيد قطب هو نتيجة أو تلميذ من تلامذة مدرسة حسن البنا رحمة الله عليه، جاهد في الله حق جهاده، وبذل أغلى ما يعطي، فبذل نفسه في سبيل الله؛ فتأثم به طاغوت من طواغيت الأرض عليه ما يستحق من ربه؛ موهبة قوية، وشخصية بارزة وعاطفة نظيفة، وقلم غزير، وفكر متقد، سعى لإقامة حكم الله في الأرض بكل ما أوتي، وحاول أن يبث فكره ودعوته مرتبطةً بالقرآن لأنه مصدر يصلح لهذا الغرض.
دعوةً إلى الحركية وإلى إقامة الحكومة الإسلامية بين خطوة وأخرى تحت ظلال القرآن؛ لكن عقيدة غير سلفية وتصور منحرف أدى به إلى الوقوع في الحلول والحلولية …”إهـ كلام الشيخ المغراوي من حفظي الذي حفظته عنه في صغري ..
وهو نصه في الطبعة الأولى من كتابه “المفسرون ..”، الذي تفاجأت بعد مدة أنه غيره في الطبعة الثانية تحت ضغط الغلو المدخلي والجامي ..
وهو شبيه بما وقع للداعية محل هذه الاستشارة!
ولا أحتاج هنا أن أؤكد على أن أسماء الوعد والوعيد التي جاءت بها الشريعة إنما يتكلم فيها العلماء تمجيداً أو تحديداً لما يترتب عليها في الدنيا من أحكام أولاً؛ وثانياً لما يرجى لعموم المسلمين من الرحمة والكرم الإلهي؛ الذي هو الأصل الأغلب من ربنا في الدارين لقوله تعالى
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]
وقوله: “إن رحمتي سبقت -وغلبت- غضبي“…
وهؤلاء الذين نتقرب إلى الله بالدعاء لهم وبحبهم؛ ممن فجعنا بهم في “حادثة الرافعة” ومثلهم كثير من رجال القدس وفلسطين ومظلومي سوريا والعراق ومصر؛ لا نشك في جواز إطلاق لفظ الشهداء عليهم شرعاً وواقعاً؛ وربما اجتمع في الواحد منهم أكثر من سبب لتسميته بالشهيد؛ كأن يجتمع عليه هدم وحرق واعتداء؛ وما “مجزرة رابعة” عنكم ببعيد ..
وكما أنه من المعلوم أنه لا تلازم بين الشهادة والجنة؛ وأن هذا جدل لفظي لا علاقة له بتحقيق العلم لا عقيدةً ولا فقهاً؛ بل فيه تكلف لما لم يكلفك الله ببحثه أصلاً؛ وأن مثل قول الطحاوي رحمه الله في عقيدته السلفية النيرة:
“ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك و نذر سرائرهم إلى الله تعالى”.
أصله الرد على الخوارج الذي يدينون بالوعيد فقط؛ والرد على المرجئة الذين يدينون بالوعد فقط على ما يعرف تفصيله في محله..
فمن المعلوم أيضاً أن لفظ “الشهيد” وإن كان أعلى ما يطلق عليه شرعاً هو قتيل الجهاد في سبيل الله مضرجَ الدماءِ مجندلَ الجثمانِ أُهريقَ دمه وعُقر جوادُه احتساباً ورباطاً لله ما أزكاه من ذي نفسٍ زاكيةٍ راضيةٍ مطمئنة؛ فإنه ثبت في الشريعة تسميةُ غيره شهيداً؛ وإن كانوا لا يستوون عند الله فإن كلاًّ وعد الله الحسنى والأجرَ العظيمَ ..
وقد صُنفت في جمعهم مصنفات ومن مشهور أنواعهم سبعة عشر نوعاً:
-مجاهدوا الصحابة
-الصَّادِعُ بالحق
-قتيل المعترك
-المطعون(الطاعون)
-الغريق
-المبطون
-الحرق
-الهدم
-الحبلى
-مقتول دون ماله
-دون دمه
-دون عرضه
-السل
-النفساء
-طريح دابته
-من قتل دون مظلمته
وأدلة ذلك وتفاصيله مشهورة في الدواوين ..
وقد بوب النسائي في تحريم الدم بقوله: “باب من قاتل دون مظلمته“:
وروى حديث سويد مرفوعا: “من قتل دون مظلمته فهو شهيد“. وصححه الألباني رحمه الله ..
وعند أحمد والنسائي من حديث العرباض وصححه الحافظ في الفتح:
“يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ إِلَى رَبِّنَا فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْ الطَّاعُونِ فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ: إِخْوَانُنَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا، وَيَقُولُ الْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ: إِخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مُتْنَا، فَيَقُولُ رَبُّنَا: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ فَإِنْ أَشْبَهَ جِرَاحُهُمْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ؛ فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ“.
قَالَ الحافظ في الفتح 6/52:
“قال ابْن التِّين: هَذِهِ كُلّهَا مِيتَات فِيهَا شِدَّة؛ تَفَضَّلَ اللَّه عَلَى أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جَعَلَهَا تَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِمْ وَزِيَادَة فِي أُجُورهمْ يُبَلِّغهُمْ بِهَا مَرَاتِب الشُّهَدَاء”.
بل إن شيخ الإسلام ألحقَ بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعيَّن بالجنة؛ شهادة الناس شهادة عامةً على أحد القولين لظاهر حديث: “وجبت وجبت“. (انظر جامع المسائل4/183)
بل أمعن بعض المالكية في الرجاء فقال الحطاب (2/548المواهب) في أنواع الشهداء نقلاً عن ابن العربي في العارضة:
“في الذي يقتله اللصوص لا خلاف أنه شهيدٌ، وكذلك كل من قتل مظلوماً دون مال أو نفس، ومن غرق في قطع الطريق فهو شهيد وعليه معصيته، وكل من مات بسبب معصية فليس بشهيد، إن مات في معصيةٍ بسبب من أسباب الشهادة فله أجر شهادته وعليه إثم معصيته؛ وكذلك لو قاتل في على فرس مغصوب؛ أو كان قومٌ في معصيةٍ فوقع عليهم البيتُ فلهم الشهادة وعليهم المعصية” إهـ
ذكروا ذلك عند قول خليل رحمه الله في مختصره:
“ولا يُغَسَّلُ شهيدُ معتَرَكٍ فقطْ“.
يعني رحمه الله أن غيره من الشهداء لهم أجر الشهادة ولكن لا تجري عليهم أحكام “شهيد المعترك” التي ذكرها الشيخ خليل بقوله :”ودُفِنَ في ثيابه إن سترته وإلاَّ زِيدَ…”إلخ.
وقد فصلها شيخنا الإمام ابن عدود رحمه الله أجمل تفصيل في أول شرحه التسهيل والتكميل.
وذكر طرفا من ذلك الإمام الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز بإبداع وتحقيق.
والحافظ ابن حجر في الفتح 6/42.
رحم الله علماءنا أجمعين.
بل إنني أتفاءل رجاءً في رحمة الله علينا أجمعين؛ بأن يبلغنا سبحانه منازلهم بمجرد تحقيق الإيمان وتجريد التوحيد للخلاق والاتباع للمعصوم والتصديق والصدقات -وإن ذلك لعظيم وما هو بالهين-؛ لظاهر قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم)
وإنما قُلْتُ التصديق والصدقات؛ جمعاً بين مدلول قراءتي التخفيف للمكي وشعبة، والتشديد للباقين السبعيتين؛
ووجهه حمل الشهداء على العطف على الصديقين لا على الاستئناف على ضعفه في الأعاريبِ..؛
وكأن المعنى أن المصدق بالله ورسوله إيمانا منفقا في سبيله إذعانا؛ لهم خمسة أنواع من الفضائل عند الله تعالى:
١-مضاعفة الحسنات
٢-دخول الجنة
٣-درجة الصديقية
٤-درجة الشهادة
٥-مع النور التام الذي به يهتدون يوم القيامة..
وإن كان علم الوقف أيضاً لا يساعده كثيراً كما هو معلوم عند أهل الأداء القرّاء المجودين.
وقد أشار الطبري إلى كلا المعنيين على كلا الوجهين في الوقفينِ والإعرابينِ؛ وجعل الأصوبَ هو القول المعروف المشهورَ؛ ولا مانع من التفاؤل بما ذكرناه وهو قول مجاهد رحمه الله كان يقول:
“كل مؤمن شهيد”؛ ثم يقرأ آية الحديد هذه ..
وقال السيوطي في شرح مسلم كتاب الإمارة:
“فقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان وشهد بصحته كما ورد عن أبي هُريرة قال: “كل مؤمن صديق وشهيد”.
قيل: ما تقول يا أبا هريرة؟! (كأنهم ينكرون عليه)!
قال: “اقرأوا إن شئتم: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم“.
وفي حديث مرفوع: “مؤمنوا أمتي شهداء“اهـ.
وهذا طبعا كله من باب الرجاء وإلا فمنزلة من باع نفسه لله لا يدانيها أحد كما في حديث عمر عند أحمد والترمذي وقال حسن غريب:
“الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ؛ فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْيُنَهُمْ هَكَذَا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ فَلا أَدْرِي قَلَنْسُوَةَ عُمَرَ أَمْ قَلَنْسُوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِيمَانِ ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا يُضْرَبُ جِلْدُهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ مِنَ الْجُبْنِ ، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ ، فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ، فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ، فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ“. ذكره ابن كثير في تفسيره.
ويشهد لهذا المعنى المتفائلِ حُسْنَ ظنٍّ بالرب البر الرحيم الكريم؛ ظاهرُ قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}
فتأمل رزقني الله وإياك رضاه ..
وهذه هي مراتب الكمال الأربعة التي شرحها الإمام ابن القيم في المفتاح من آيتي النساء والحديد بقوله قدس الله روحه ونور ضريحه:
“الرسالة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، فأعلى هذه المراتبِ: النبوةُ والرسالة، ويليها الصِّديقيَّةُ؛ فالصِّديقون هم أئمة أتباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة، فإن جرى قلم العالم بالصِّديقيَّة، وسال مداده بها، كان أفضل من دم الشهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصِّديقيَّة، وإن سال دم الشهيد بالصِّديقيَّة، وقطر عليها، كان أفضل من مداد العالم الذي قصر عنها، فأفضلُهما صدِّيقُهما، فإن استويا في الصِّديقيَّة، استويا في المرتبة”. 1/298
ومن أحب التوسع فليطالع آيات القرآن، وكتاب الجهاد من البخاري بشروحه، ولينظر في المصنفات الخاصة بأخبار الَمصَارِع وككتاب الإنجاد لابن المناصف المغربي بتحقيق الشيخ الفاضل مشهور نفع الله به؛
فإن هذا الباب ما زال علامةً فارقةً شعاراً ودثاراً عند المسلمين وفي عقيدة أهل السنة إلى قيام الساعة ..
ولا داعي للتحذلق على الشريعة بقول بعض الناس: “لا نقول شهيد”، ولكن “نقول له أجر شهيد”!!
فهذا -ما لم يكن توضيحا للأميين- -وقصد حرمان مستحقه منه ظلماً-؛ فهو عندي أشد من بعض أنواع التأويل الباطل أو الإثبات العاطل أو الظاهرية الصماء مما عند أهل البدع المخالفين لأهل السنة؛ بل نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “شهيد”، ونسكت بغير تحريف ولا تعطيل!
وإذا احتيج للبيان الفقهي تفريقاً بين خواص الأحكام الدنيوية فذلك معلوم عند الفقهاء ولا داعي لتفيهق المتعلمين أو تشدق المتعالمين …
وعجباً من بعض الناس يتسارع للحكم بالشهادة في بعض أُناسٍ قد تكون شرعاً خفيةً أو ضعيفة؛ ويستكثرها على أمثال هؤلاء الركع الطائفين أو المظلومين والمغتصبين …
ولا داعي للذهاب بعيدا؛ فانظر إلى نماذج منهم في حادثة الاعتداء على الطيار الأردني معاذ الكساسبة رحمه الله، والجنود الإماراتيين قبل أيام، وجنود سيناء رحم الله الجميع؛ فتجد بعض المتاجرين المطففين يكيل بمكيالين ويُخسر الميزان عياذاً بالله؛ ولا لوم على من شهد بالحق فنحن لا ننتقده في موقفه بل نحن معه في ذلك الجندي وهؤلاء الجنود إن كان قد حقق الوصف اللازم شرعاً…
ولكننا نحذره من التطفيف؛ أن يُظهر الخفي فيبكي ويتباكى ويتوعد؛ ويُخفي الظاهر فيتورع ويتبارد ويتشدد!
وقد روى مالكٌ في “الموطَّأ” (1/12) أنَّ عمر بن الخطَّاب انصرفَ من صلاة العصْر، فلقي رجُلاً لم يشهد العصر، فقال عمر: “ما حبسكَ عن صلاة العصر؟“
فذكر له الرجُل عذرًا، فقال عمر: “طفَّفتَ“.
قال الإمام مالك:
“يُقال: لكل شيء وفاءٌ وتطفيفٌ“؛
قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
قال شيخ شيوخنا العلامة الرباني السَّعديُّ رحمه الله في تفسيره القيم:
“دلَّت الآية الكريمة على أنَّ الإنسان كما يأخُذ من النَّاس الذي له، يجب عليْه أن يُعطيهم كلَّ ما لَهم من الأموال والمعاملات، بل يدخُل في عموم هذا: الحُجَج والمقالات، فإنَّه كما أنَّ المتناظرين قد جرت العادة أنَّ كلَّ واحد منهما يحرص على ما لَه من الحجج، فيجب عليه أيضًا أن يبيِّن ما لخصمه من الحُجَج التي لا يعلمها، وأن ينظُر في أدلَّة خصمه كما ينظر في أدلَّته هو، وفي هذا الموضع يعْرف إنصاف الإنسان من تعصُّبِه واعتسافه، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه، نسأل الله التَّوفيق لكلِّ خير”.
فاللهم ارحم شهداء الحرم وارحم شهداء فلسطين وارحم شهداء مصر والعراق واليمن.
وارحم الشهيد سيد قطب والشهيد الحسن البنا والشهيد الملك فيصل والشهيد إحسان إلهي ظهير والشهيد أحمد ياسين والشهيد عبد الكريم الخطابي المغربي الذي كان يقول: “ليس هناك شيء اسمه انتصار أو هزيمة؛ وإنما هو الواجب وعليك أن تقوم به”.
ويقول: “الاستعمار وهم يتلاشى أمام عزيمة الرجال لا أشباه الرجال”.
ويقول: “السلاح الحقيقي لا يستورد من هنا أو هناك؛ ولكن من هنا”؛ ويشير إلى قلبه.
يعني: الصدق والشجاعة.
“ومن هنا”؛ ويشير إلى عقله.
يعني: العلم والحكمة.
وارحم اللهم كل من جاهد في سبيلك لتعلو كلمة الحق العليا وتبقى كلمة الباطل السفلى سفلى وألحقنا بالصالحين في الصالحين غير ضالين ولا مضلين ..
آمين.
التوقيع:
الدكتورعادل بن المحجوب رفوش
إعداد:
قسم الاستشارات الشرعية
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI