تاريخ النشر : 11/05/2020
عدد المشاهدات : 2079
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
منذ عهد مبكّر يسّر الله الأسباب للتمرّس بالقرآن الكريم: قراءةً وتجويداً، تلقّياً وتلقيناً، دراسة وتدريساً.
ومن حُسْنِ الحظ أن أخذت علم التفسير على شيوخ كبار، بعضهم في المغرب وبعضهم في المشرق، فتعرّفت عن كثب، وأدركت عن بيّنة، عظمة رسالة القرآن، التي هي أكبر نعمة أنعم الله بها على الإنسان، واقتنعت كامل الاقتناع بأنّ مَنْ أهّلته الأقدار لتلقي هذه الرسالة يجب عليه أن يقوم بنشرها على أوسع نطاق، وأن يبذل النفس والنفيس في سبيل تبليغها إلى الناس كافة.
وكان من ذلك ما تطوّعت به في العشرينات والثلاثينات من إلقاء دروس ومحاضرات في تفسير بعض السور وبعض الآيات، بمساجد الرّباط ومساجد تطوان.
ثم ما كرّست له قسماً كبيراً من وقتي وجهدي في الأربعينات، من الإقبال على تفسير القرآن الكريم كل يوم بين العشاءين، خلال سنتين متواليتين بالمسجد الأعظم بطنجة، وخلال سنة ثالثة بالمسجد المحمدي والمسجد العتيق بالدّار البيضاء.
وكانت هذه الدروس العامة التي احتككت فيها بالشعب المؤمن احتكاكاً يومياً مباشراً فرصة للتأكد من جديد -إن كانت هناك حاجة إلى التأكيد- بما يحدثه كتاب الله من تعبئة روحية، وتأثير عميق، وانقلاب سريع في نفوس المؤمنين والمؤمنات.
فكتاب الله هو الذي أحيا من المسلمين الموات، وأعدّهم للبذل والعطاء وعظيم التضحيات، فانطلقوا كالسيل الجارف، الجيش الزاحف، يدكّون صروح الاستعمار، في مختلف الدّيار.
وبعد استرجاع الاستقلال في أواسط الخمسينات واصلت العمل على نشر رسالة القرآن، فألقيت عدة أحاديث ومحاضرات في موضوعات مختلفة من الدّراسات القرآنية المتنوعة، كان من بين ما عالجته فيها موضوع: “المنهج العلمي لتفسير القرآن“، وموضوع: “كيف يعيش الإنسان طبقاً لتعاليم القرآن“، وموضوع: “دستور العمل في شريعة القرآن“، وموضوع: “رسالة القرآن رسالة خالدة“، وموضوع: “إعجاز القرآن على ضوء العلم الحديث“.
كما قمت خلال نفس الفترة بتفسير عدة سور مفردة، في مناسبات متعددة، لكن دون التزام بعقد مجالس عامة للتفسير بصورة منتظمة.
وذات يوم من أسعد أيام الستينات؛ تلقيت دعوة ملحّة من الإذاعة الوطنية بالمغرب للقيام بإلقاء أحاديث يومية في تفسير القرآن الكريم، لفائدة المواطنين والمواطنات، وكافة المؤمنين والمؤمنات، وذلك برواية ورش عن نافع، التي هي القراءة المتبعة عند المغاربة منذ عدة قرون؛ فوجدت هذه الدعوة النبيلة هوى في النفس، وحنيناً في القلب، واستجابة روحية كاملة.
لكنني أحسست في نفس الوقت بثقل المسؤولية، وصعوبة التكليف، فقد كانت الدُروس والمحاضرات التي اعتدت إلقاءها من قبل قاصرة على الجمهور الذي يتسع له هذا المسجد أو ذاك، وهذه القاعة أو تلك، وذلك الجمهور مهما يكن عدده كثيراً ووفيراً فإنه لا نسبة بينه وبين الجمهور الجديد والعديد الذي يستمع إلى الإذاعة الوطنية كل يوم، من مختلف الأذواق والمشارب والمستويات، داخل المغرب وخارجه.
وشاء الله تعالى أن يهديني سواء السبيل عندما عثرت على المفتاح، الذي يمكن أن يكون أول خطوة في طريق التوفيق والنجاح؛ فقد تبين لي بما لا يدع مجالاً للشك أن المهمة الجلّى والكبرى التي يجب أن تؤديها “أحاديث التفسير” لجمهور المسلمين الكبير – بصفتها أحاديث يومية عامة – هي وضع أيديهم، كل مطلع فجر، على الكنوز التي أودعها الله في القرآن، وتذكيرهم بالرّسالة “الأصليّة” للقرآن، التي هي رسالة الحياة في كل يوم، رسالة التوجيه الإلهي والتربية الرّبانيّة، التي يجب أن يتجلّى أثرها الطيب والدائم في حياتهم اليومية، ذلك أن آيات القرآن الكريم ليست قصّة من قصص الماضي السحيق يكتفي بحكايتها والتبرّك بها في فترات الرّاحة والاسترخاء، ولا خبراً من أخبار الغابرين يقتصر على التلهّي بها في مجالس التسلية والسمر.
وإنما هي رسالة الحياة المتجددة في كل عصر وجيل، وقصة اليوم والغد والحاضر والمستقبل، وهي مرآة المسلم الصافية التي يجب أن ينظر وجهه فيها كل مطلع شمس، ويعيّر سلوكه بمعيارها، ويكيف حياته بها في كل حين: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
ومن منن الله علينا أن كتاب الله العزيز جعله الله “تبياناً لكل شيء” فوضَّح لنا فيما وضَّحَ، ما هي رسالة القرآن، بأعجز وأوجز بيان؛ فقال تعالى في سورة الأعراف – الآية 203: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وقال تعالى في سورة إبراهيم – الآية 52: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
وقال تعالى في سورة القصص – الآية 43: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
فلتدُر إذن “أحاديث التفسير اليومية” في فَلَك هذه الآيات البيّنات، التي حددت بمنتهى الدقة والوضوح رسالة القرآن “الأصلية” ولْتُقدِّم للجمهور المسلم معاني القرآن، خالصة من جميع الشوائب التي تتنافى مع روح القرآن، ولْتُبَرِّئ ساحة القرآن من كل ما لا يمت بسبب ولا نسب إلى القرآن، أو السنّة الصحيحة التي هي بيان القرآن، وَلْتَسْتَعِنْ على بسط ما هو مجمل، وتقييد ما هو مطلق، وتخصيص ما هو عام، وتوضيح ما قد يعرض في فهمه إشكال أو غموض، بمقارنة الآيات القرآنية الواردة في كل موضوع موضوع وكل ميدان ميدان، فكتاب الله من بدايته إلى نهايته كتاب واحد يفسر بعضه بعضاً، ويكمل بعضه بعضاً، وهو بمجموعه وبكافة سوره يُكَوّن “وحدة” متلاحمة لا تقبل التناقض ولا تعرف الاختلاف.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. فصلت – الآية42.
وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} – النساء – الآية 82.
وتسهيلاً للوصول من أقصر الطرق وأيسرها إلى الغاية المتوخاة من “أحاديث التفسير اليومية”؛ ارتأيت أن أقدّم بين يدي الآيات التي أنا مقبل على تفسيرها، والتي يكون المستمع مقبلاً على سماعها وتدبرها: مدخلاً تمهيديّاً لتلك الآيات، ونظرة عامة عليها، حتى يستعد في يسر وأناة وتدرّج لفهمها واستيعابها، ويتبيّن له المحور الذي تدور عليه من أوّلها إلى آخرها.
وفي هذا المدخل التمهيدي أُدرج مسبقاً بطريقة أو بأخرى – ما يصلح أن يكون شرحاً لبعض المفردات المستعملة في تلك الآيات، إعانة له على فهمها، مما لا يجده اليوم مستعملاً بكثرة، أو لا يجده مستعملاً بالمرّة، حتى إذا ما واجه آيات الحصّة واجهها بمنتهى الوعي وكامل الإدراك، وحصل منها على الفائدة المرجوّة.
وعندما يضيق الوقت المخصص في الإذاعة لحصّة التفسير عن استيعاب القول في جميع الآيات الداخلة في نطاق الحصّة؛ أكون مضطراً إلى التركيز على قسم من تلك الآيات، وأؤجل القول في بعضها الباقي إلى أن يأتي ما يماثلها في حصة أخرى من نفس السورة، أو ما يماثلها في غيرها من السور.
حتى إذا ما حلَّت المناسبة المرتقبة جمعت الآيات المتعلقة بنفس الموضوع في صعيد واحد، وتناولت السابق منها واللاحق بالتفسير الكافي والشرح الوافي، بقدر الاستطاعة، وبذلك تكون أحاديث التفسير قد تناولت في مجموعها الجميع.
وحتى لا يتشعب القول في هذه الأحاديث، ولا تخرج عن الغرض الذي من أجله وقع التفكير في إملائها؛ لم أجعل منها معرضاً للمصطلحات العلمية، ولا مرجعاً للخلافات المذهبية، ولا معتركاً للجدل والفضول وكثرة القيل والقال، والتوسع الزائد عن الحاجة المؤدي إلى الإملال، ولم أشحنها بذكر “القواعد العلمية” التي تضبط كل فرع من فروع الثقافة الإسلامية، ولم أشرْ إليها إلا لماماً وعند الضرورة، إذ الغاية الأولى والأخيرة من هذه الأحاديث هي المساهمة العملية واليومية في التثقيف الشعبي والدّيني الذي هو حق كل مسلم ومسلمة، وإعداد برنامج إذاعي خاص، للتعريف كل يوم برسالة القرآن الجامعة، وهدايته النافعة “ولكل مقام مقال”.
على أنّ ما نقدّمه ضمن هذه الأحاديث من البيانات والإِيضاحات والفهوم، كله مبني وقائم على أساس نفس “القواعد العلمية” التي حرّرتها وضبطتها تلك العلوم، إذ بدونها وبتجاهلها لا يمكن لأحد منا أن يضرب في علم التفسير بسهم، ولا أن يفهم كتاب الله فهماً صحيحاً لا لغوياً ولا شرعياً.
أما الأسلوب الذي اخترته لإملاء هذه الأحاديث فهو أسلوب مبسَّط وَسَط يفهمه الأمّي ويرتاح إليه المتعلم، بحيث لا ينزل، حتى يُبْتَذل عند الخاصة، ولا يعلو، حتى يصعب على العامة، بل هو بين بين، يتجافى عن استعمال الوحشي والدخيل والغريب، ويتفادى كل ما فيه تعقيد أو غموض، من بعيد أو قريب، ويتحدث إلى أهل العصر بلغة العصر، ويضع نفسه في جو المشاكل التي يتخبط فيها هذا العصر، وفي نفس المستوى الثقافي للعصر.
وهذا النوع المتميز بالسهولة واليسر من أساليب البيان، يتجاوب كل التجاوب مع توجيهات القرآن، فقد قال تعالى في سورة القمر المكية: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
وأعاد كتاب الله هذه الآية بنفس النص في نفس السياق أربع مرات، فكانت هي الآية السابعة عشرة، والثانية والعشرين، والثانية والثلاثين، والآية الأربعين؛ كل ذلك ليؤكد معناها، ويلفت النظر إلى مغزاها.
وبديهيّ أن “تيسير القرآن” الذي يؤدي إلى التذكُّر والتدبُّر لا يقف عند حد تيسر تلاوته وحفظه، وإنما يشمل ويضع في الدّرجة الأولى تيسير فهمه وعلمه والعمل به، مصداقاً لقوله تعالى في نفس الآية: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، وقوله تعالى في آية أخرى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
وما دام الأسلوب الذي وقع عليه الاختيار لتحقيق هذا الغرض النبيل مستمداً ومستوحىً من نص التنزيل القائل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ففي إمكان قراء هذه الأحاديث أن يطلقوا عليها اسم: (التيسير في أحاديث التفسير)، أو يطلقوا عليها بناءً على ما بَسَطناه من مختلف الاعتبارات اسم: (النهج القَوِيم في تفسير الذكر الحكيم).
هذه كلمات مختصرة وضعتها بين أيدي هذه الأحاديث، قصد تعريف القرّاء الأعزّاء بالظروف التي أوحت بها، والغاية المتوخاة منها، والطريقة المتبعة في إملائها، حتى يكونوا على بَيِّنة من أمرها، وعسى أن تكون هذه الأحاديث فاتحة عهد جديد، بصفتها أول تفسير إذاعي للمصحف الكريم عرفته الإذاعات العربية والإسلامية، في ميدان التوعية الدينية.
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل عملاً مقبولاً، وأن يجعله لِعَفوه ورضاه سَنَداً موصولاً، وأن ينفعني وينفع به جمهرة المستمعين والقرّاء، إنه سميع الدعاء.
أما حَمَلة “علم القرآن” في مختلف البلدان؛ فإنني أرجو منهم قبول المعذرة عما قد يكون في هذا العمل من خللٍ أو نقصان، وعما قد أكون تعرضت له من خطأ أو نسيان، أو سبق لسان، وشفيعي لدى الجميع حسن النّية وسلامة القصد، والحرص على الوفاء بما لله ورسوله في ذمة “أهل الذكر” من الميثاق والعهد، مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. صدق الله العظيم.
رباط الفتح
محمد المكي الناصري
وسوم :التفسير الحركة الوطنية الشيخ المكي الناصري مجالس إحياء مجالس النور مركز بلعربي العلوي
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI