تاريخ النشر : 29/05/2020
عدد المشاهدات : 475
(كيف عامل النبيُ شاتميه؟)
بقلم: حماد القباج
إن من أدق المعايير لوزن خلق الإنسان؛ استقراء وتتبع مواقفه من السلوك العدواني الذي يستهدفه ..
وإذا كان الخالق جل وعلا قد وصف خاتم رسله صلى الله عليه وسلم؛ بأنه على خلق عظيم، وأخبر عنه سبحانه بقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؛ فإن تتبع واستقراء مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطاول المجرمين بالشتم والاستهزاء؛ يسفر عن برهان عملي وقطعي لتلك الحقيقة القرآنية.
حقيقة قادت أجانب إلى الإسلام وحب النبي عليه السلام واتباعه، ومنهم من كان يحمل تصورا خاطئا؛ فلما درس السيرة النبوية واطلع على أخلاق النبي؛ تاب وأناب؛ كما حصل للهولندي (أرناود فان دورن) الذي أخرج فيلم الفتنة المتنقص لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ثم ندم واعتذر للمقام المنيف وأعلن إسلامه (الفيديو متوفر على النت).
لقد أنجزت دراسة من 150 صفحة حول هذا السلوك النبوي؛ أودعت خلاصتها في هذه المقالة.
وتتمحور الدراسة على نصوص من القرآن الكريم والسيرة النبوية نستعرضها فيما يلي:
النص الأول:
قول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور} [آل عمران: 186]
قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى[1]: “قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}؛ في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة، فخمّر ابن أُبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا.
فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أُبي: إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا.
وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، فنزلت هذه الآية. رواه عروة عن أسامة بن زيد.
والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أشدّ الأذى، فنزلت هذه الآية؛ قاله كعب بن مالك الأنصاري.
والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق وبين فنحاص اليهودي.
والرابع: أنها نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره مقاتل.
وقال عكرمة: نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق وفنحاص اليهودي.
والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري ..
قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}.
قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، {والَّذِينَ أَشْرَكُوا}: مشركو العرب.
{وَإِنْ تَصْبِرُوا} على الأذى {وَتَتَّقُوا} الله بمجانبة معاصيه، {فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده.
قال في التحرير والتنوير (4/ 190): “والأذى هو الضر بالقول؛ كقوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران: 111].
ولذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحد الذي تحتمله النفوس غالبا”اهـ.
النص الثاني:
قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)}
قوله تعالى: (وأعرض عن المشركين) أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون[2].
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: “لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء؛ أنزل الله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون}.
والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك من أذاك كما كفاك المستهزئين؛ وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة؛ وهم: الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة.
أهلكهم الله جميعا يوم بدر في يوم واحد، لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم”[3].
النص الثالث:
قول الله تعالى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: “وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد ..
وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين؛ فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب، قال تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} [الأحزاب: 26][4].
قال: “وأمره بالعفو عنهم والصفح؛ حمل على مكارم الأخلاق، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدينية؛ فلا يعارض هذا قوله في براءة: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]؛ لأن تلك أحكام التصرفات العامة، فلا حاجة إلى القول بأن هذه الآية نسخت بآية براءة”.
يعني الشيخ ابن عاشور بأن آيات الأمر بالعفو غير منسوخة؛ فمُتعلَّقها: المعاملة الشخصية، أما آية براءة فتتعلق بالشأن العام ومواجهة التصرفات التي تستهدف الدولة وكيان المجتمع.
النص الرابع:
قول الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ}.
قال قتادة وغيره: كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا سمعك)، يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة.
وذكر بعض أهل التفسير أن هذه اللفظة كانت سبا قبيحا بلغة اليهود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فهؤلاء قد سبوه صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام ولووا ألسنتهم به واستهزءوا به وطعنوا في الدين؛ ومع ذلك فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم”[5].
النص الخامس:
قوله سبحانه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[6]: “روي عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة؛ دخل حديث بعضهم في بعض؛ أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: “ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء”؛ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء.
فقال له عوف بن مالك: “كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق”.
قال ابن عمر: “كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب.
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه”.
وقال مجاهد: “قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب فأنزل الله عز وجل هذه الآية”.
وقال معمر عن قتادة: “بينا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: أيظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها؟
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “علي بهؤلاء النفر“؛ فدعا بهم فقال: أقلتم كذا وكذا؟ فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب” ..
فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه واستهانوا بخبره؛ أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟
وإنما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك بل كان مأمورا بأن يدع أذاهم، ولأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه وآذاه”.
فكان عليه السلام أميل إلى خلق العفو والمسامحة.
النص السادس:
عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة. فقال رجل: والله، إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله!
قال فقلت: والله؛ لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله»؟!
ثم قال: «يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
قال قلت: «لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا»[7].
النص السابع:
عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
“دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم!
قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله».
فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد قلت: وعليكم“[8].
النص الثامن:
عن بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده؛ أن أخاه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جيراني على ماذا أُخذوا؟
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إن الناس يزعمون أنك تنهى عن الفيء وتستحل به!
فقال: “لئن كنت أفعل ذلك إنه لعليّ، وما هو عليهم؛ خلوا له جيرانه“[9].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فهذا وإن كان قد حكى هذا القذف عن غيره؛ فإنما قصد به انتقاصه وإيذاءه بذلك، ولم يحكه على وجه الرد على من قاله؛ وهذا من أنواع السب”اهـ.
وأخرج بن سعد من مرسل عكرمة أيضا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله.
ومن ثم حكى عياض في الشفاء قولين: هل قتل أم لم يقتل؟”اهـ
الرحمة المهداة:
لقد كان هذا هديه عليه السلام مع الشاتمين والمستهزئين؛ مع أنه كان من حقه الشرعي والطبيعي أن يعاقبهم؛ ومع ذلك لم يفعل إلا في حالات معدودة؛ لا يتجاوز الثابت منها: أربعة حالات راعى فيها حق الدولة والمجتمع؛ كما بينت ذلك في دراستي التي هي أصل هذه المقالة.
وهذا الهدي النبوي العظيم في العفو عمن شتمه أو استهزأ به؛ من صور رحمته عليه السلام بالناس التي وصفه الله تعالى بها في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا رحمة مهداة»[10].
ومما يدل على تجذر خلق الرحمة وحب الخير للناس في أخلاقه صلى الله عليه وسلم، بما فيهم الذين يؤذونه -بأمي هو وأمي-؛ ما روته عائشة رضي الله عنها قالت:
قلت: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: “لقد لقيت من قومك؛ فكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أفق إلا في قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”.
قال: “فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك إن شئت أطبق عليهم الأخشبين“.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا»[11].
الأنبياء أولى الناس بالأخلاق الكاملة:
قال القاضي عياض في بيان هديه صلى الله عليه وسلم مع الذين يسبونه:
“وكان مع هذا يطمع في فيأتهم ورجوعهم إلى الإسلام وتوبتهم؛ فيصبر صلى الله عليه وسلم على هناتهم وجفوتهم كما صبر أولو العزم من الرسل، حتى فاء كثير منهم باطنا كما فاء ظاهرا وأخلص سرا كما أظهر جهرا، ونفع الله بعد بكثير منهم، وقام منهم للدين وزراء وأعوان وحماة وأنصار كما جاءت به الأخبار”[12].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى[13]:
“كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله (أي: السب أو الاستهزاء)؛ امتثالا لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وكقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم}، وكقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم}.
وذلك لأن درجة الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم؛ أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؛ يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام؛ قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه}، وقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}، وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين}.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة.
ثم الأنبياء أحق الناس بهذه الدرجة؛ لفضلهم؛ وأحوج الناس إليها؛ لما ابتلوا به من دعوة الناس ومعالجتهم.
وتغيير ما كانوا عليه من العادات هو أمر لم يأت به أحد إلا عودي؛ فالكلام الذي يؤذيهم يكفر به الرجل فيصير به محاربا إن كان ذا عهد ومرتدا أو منافقا إن كان ممن يظهر الإسلام.
ولهم فيه أيضا حق الآدمي فجعل الله لهم أن يعفوا عن مثل هذا النوع ووسع عليهم ذلك لما فيه من حق الآدمي تغليبا لحق الآدمي على حق الله كما جعل لمستحق القود وحد القذف أن يعفو عن القاتل.
ومعلوم أن النيل منه صلى الله عليه وسلم أعظم من انتهاك المحارم، لكن لما دخل فيها حقه كان الأمر إليه في العفو أو الانتقام؛ فكان يختار العفو.
وربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في ذلك، بخلاف ما لا حق له فيه من زنا أو سرقة أو ظلم لغيره؛ فإنه يجب عليه القيام به.
وقد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه؛ أرادوا قتله؛ لعلمهم بأنه يستحق القتل؛ فيعفو هو عنه صلى الله عليه وسلم، ويبين لهم أن عفوه أصلح، مع إقراره لهم على جواز قتله، ولو قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض له النبي صلى الله عليه وسلم”اهـ.
تأليف القلوب:
وقال القاضي عياض أيضا في تعليل الهدي النبوي في الإعراض والعفو:
“والأولى في ذلك كله والأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف والمداراة على الدين لعلهم يؤمنون.
ولذلك ترجم البخاري على حديث القسمة والخوارج: “باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه”.
ولما ذكرنا معناه عن مالك وقررناه قبل”اهـ[14].
قال شيخ الإسلام[15]: “وكان يعفو عنهم تأليفا للقلوب لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقد جاء ذلك مفسرا في هذه القصة أو في مثلها:
فروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال:
“أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي منها الناس فقال: يا محمد اعدل فقال: “ويحك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل“.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق.
فقال صلى الله عليه وسلم: “معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي؛ إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية“.
وروى البخاري منه عن عمرو عن جابر رضي الله عنهما:
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل!
فقال: “لقد شقيت إن لم أعدل“.
وجاء من كلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أغلظ من هذا:
قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه:
حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث قال: خرجت أنا وتيلد بن كلاب الليثي فلقينا عبد الله بن عمرو بن العاص يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يديه؛ فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه؟
قال: نعم؛ ثم حدثنا فقال: أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم المغانم بحنين فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت.
قال: “فكيف رأيت“؟
فقال: لم أرك عدلت!
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون“؟
فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم إليه فأضرب عنقه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية” وذكر تمام الحديث”.
وقال شيخ الإسلام في موطن آخر: “وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته؛ فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى”[16].
هل نسخ حكم الإعراض؟
رأى بعض الفقهاء أن حكم الإعراض والعفو منسوخ بآيات الجهاد:
قال القرطبي[17]: “قيل: هذا كان قبل نزول القتال، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور.
وكذا في البخاري في سياق الحديث، إن ذلك كان قبل نزول القتال.
والأظهر أنه ليس بمنسوخ؛ فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا مندوب إليها.
وكان عليه السلام مع الأمر بالقتال؛ يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بيّن”اهـ.
قال في التحرير والتنوير (4/ 190):
“وأما الصبر على الأذى ففي وقتي الحرب والسلم؛ فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفار حتى تكون منسوخة بآيات السيف، لأن الظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة أحد، وهي بعد الأمر بالقتال؛ قاله القفال”اهـ.
قال ابن الجوزي عند تفسير قول الله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}:
“وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السّيف، والجمهور على إحكام هذه الآية”.
قلت:
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}؛ ما يؤكد عدم النسخ:
قال ابن عباس: {فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده.
فوصفه تعالى الصبر بأنه من عزم الأمور؛ يدل على أن العفو والإعراض؛ حكم شرعي محكم غير منسوخ.
قال الزمخشري[18]:
“{من عزم الأمور} من معزومات الأمور؛ أي: مما يجب عليه العزم من الأمور، أو مما عزم الله أن يكون، يعني: أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا”اهـ.
اللهم صل وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين.
[1] زاد المسير في علم التفسير (1/ 356).
[2] تفسير القرطبي (10/ 62).
[3] تفسير القرطبي (10/ 62).
[4] التحرير والتنوير (6/ 145).
[5] الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 238).
[6] الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 31-33).
[7] متفق عليه، والرواية لمسلم.
[8] متفق عليه.
[9] قال الحافظ ابن تيمية: “رواه أبو داود بإسناد صحيح”.
[10] رواه الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني.
[11] متفق عليه.
[12] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 497).
[13] الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 233).
[14] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 504).
[15] الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 229).
[16] الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 237).
[17] تفسير القرطبي (4/ 304).
[18] انظر: البحر المحيط في التفسير (3/ 464).
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI