تاريخ النشر : 23/08/2015
عدد المشاهدات : 3576
السياسة الشرعية المعاصرة (37)
نظرات فقهية في الخلافة الداعشية
بقلم: العلامة الدكتور عادل رفوش
ليست فكرة عابرة ولا أضغاث أحلام أن يهتم المسلمون “بشأن الخلافة”؛ لا من جهة الحرص المذموم على الدنيا؛ فإن الله وإن رغبنا في وجهه وِجهةً بابتغائه سبحانه والدارَ الآخرة ؛ فإنه قد جعل الدنيا مطيةً وهودجاً للسفر الظافر؛ واصطفاها دارا للمصطفين الأخيار أولي الأيدي والأبصار ومحلاً للسعي المرتضى والفرار المحمود فلاحاً والحرث المبارك بإذن الله؛
فليس كما يُظن أن هذه الشريعة جاءت لذم الدنيا وللزهد والتقشف والتخفي ..
فهذا غلط عليها وقعت فيه طوائف وأفراد؛ ومحكمات الشريعة تنص على ذم دنيئات الحياة الدنيا والعيشة الصاغرة الضنك؛ التي لا حسنة فيها تهدي إلى حسنة الآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
وكان من خيار صالحيها وكرام العابدين لله؛ من سأل ربه حسن التحكم فيها؛ وهو النبي الكريم ابن النبي الكريم سليمان بن داود إذ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]
وأثنى فيها على ذلك العبد الصالح “ذو القرنين” الذي أوتي ملك مشرق الأرض ومغربها قال: “ما مكني فيه ربي خير”..
ولم يكن هم الصالحين في تعاليم القران سجادةً ومحراباً فقط؛ بل كانوا عن الله مستخلفين وعن عمارة أرضه مسئولين؛ وهذا هو تشريف التكليف بحيث تُفهم العبادة لا على أنها تحكم إلهي للاسترقاق؛ بل هي تشريف رباني وتكريم سماوي وتكليف يشعر المكلف مِنِ اسمه هذا بأهميته عند الله وأهمية ما كلفه به أمانةً ليقوم عليه فيحسن تأديته ..
وشتان بين من يظن التكليف حبْساً، وبين من يرى فيه تجليات الحرية والتمكين المسئول؛ الذي لا حدود له إلا وراثة الأرض جمعاء عن الله رب العالمين؛ لإصلاحها جوا وبرا وبحرا:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 30، 31]
فإذا كان الأنبياءُ قد ورثوا العلماءَ خيرَ ميراثٍ وهو العلم؛ فإن الله ورث عباده الصالحين الأرضَ كُلهاَّ، وأصلحُهم فيها وأعبدُهم له مَنْ عمم ميراث الأنبياء على ميراث رب الأنبياء؛ فنشر كل أسباب الصلاح في كل أصقاع الأرض وفي كل مناحي الحياة؛ علماً يحيي به الموتى ومن كل زوج بهيج.
فعِلْمُ الله في الآدميين وأمره أنْ أصلح لهم الأرض وكمل مهادها؛ فليس عليهم إلا أن يهتموا بهذا إرثاً عن الله لا ينصرفون لبقعة متحجرة منها انزواء عن بقيتها بدعوى الانصراف للعبودية؛ ولا يتصرفون فيها بما يفسدها سفكاً لدماءٍ وتركاً للتسبيح بانتشار الرذيلة والتسليح ..
بل خذوا الأرض جمعاء عن ربكم رب الأرض والسماء لتحافظوا على إصلاحها كلها دون استثناء؛ ومن آثر الانطواء في حرف أو على حرف فليس من الصالحين وليس من العابدين …
فالعبادة والصلاح هو الاهتمام بكل شئون إصلاح الأرض دينياً واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وتنمويا؛ حتى عند مداهمة “الموت الأكبر” حين قيام الساعة حيث لا عقل ولا تكليف ولا تمكين؛ فإن إمام الصالحين يرشد لحسن التعمير وجميل الأثر:
“إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليفعل“.
“السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين“.
{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين} [يوسف: 101] ..
إذا فالاهتمام بموضوع الخلافة عند المسلمين ليس لهثاً وراء المطامع وإنما هو “الحرص على صلاح الأرض لسكانها بحيث لا ينتشر الفساد فيها”…
ولذا كانت “الخلافة” عنواناً مؤسسا ولافتةً بارزةً لتنبيه الدارسين على وسيلة من وسائل إصلاح الدنيا؛ وهي “اجتماع الكلمة” و”توحيد الرؤى” على ما يحقق هدف الإصلاح، والذي لن يكون مع الخلاف والاختلاف والنزاع والتنازع؛ بل لا بد من توحيد الجماعة على قصد الإصلاح ولا جماعة إلا بحكم، ولا حكم إلا بحاكم فاصل قائد مرشد ..
فكان “شأن الحكم” بلا خلاف بين العلماء المعتبرين من شئون الدين والدنيا؛ وليس كما تدعي العلمانية فصلا بينهما؛ ويبين تهافتهم علاقة سهلة واضحة؛ وهو أن من أهم مقاصد الدين هو “إصلاح دنيا الناس”:
فالتدين والمصالح وجهان لعملة واحدة في شريعة الرحمن الرحيم؛ بل رقى العلماء بشأن الحكم إلى درجة أمور الاعتقاد إمعانا في تأكيد أهمية “إصلاح دنيا الناس ونفعهم”، وأنها ليست خصوص حلال وحرام؛ بل إنها تدخل بوجوه متعددة في أمور العقيدة كفرا وإيماناً؛ بدأ باعتقاده سبحانه صاحب الحكم الأوحد وأن له الحكمة الدامغة والحجة البالغة وانتهاءً بوجوب تنصيب الإمام كما نص عليه الفقهاء وذكر ملخصه الإمام القرطبي عند آية الخليفة من سورة البقرة 1/264، ونقله عنه غير واحد كالإمام ابن كثير في نفس الموضع من تفسيره 1/333 ..
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
يقول الإمام القرطبي في تفسيره:
“هذه الآية أصل في تنصيب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة، والدليل هذه الآية وقوله: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} أي جعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآيات”اهـ
قال الإمام ابن كثير في تفسيره:
“قد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} على وجوب نصب الخليفة للفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”اهـ.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية“.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
“إن أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام لدين إلا بها، فإن بني أدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأٍس ..
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها”. [السياسة الشرعية ص 160].
قال الإمام النووي في شرح مسلم 12/205: “وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة، ووجوبه بالشرع لا بالقتل”.
قال ابن خلدون في المقدمة:
“إن نصب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسوله الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر بعد ذلك”.
قال ابن حزم:
“اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة والشيعة والخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانتباه إلى إمام عادل يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم”. [الفصل 4/106]
قال الإمام النسفي في شرح العقائد:
“والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة، والمتلمسة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات، وقبول الشهادات، وقسمة الغنائم”.
وأضاف الشارح:
“ونحو ذلك من الأمور التي لا يتولاها آحاد الأمة؛ فإن نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين..
فما أن تحقق أبو بكر من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خرج على الناس يقول لهم: “ألا إن محمدا قد مات ولا بد لهذا الدين من يقوم به”، ولم يدفن عليه والصلاة والسلام حتى أقام المسلمون أبا بكر خليفة له”.
فهذه مذاهب عموم المسلمين؛ وهذا هو لب معنى الخلافة في الشريعة الربانية: توحيد وتوحد وصلاح وإصلاح؛ بغض النظر عن الوعاء الذي سيحتوي أو الوسيلة التي ستسلك؛ ما دامت ستحقق العدل ولا منكر فيها؛ فهي عين السياسة الشرعية كما قال ابن القيم في مطلع كتابه النفيس الطرق الحكمية، ونقله عن ابن عقيل الحنبلي؛ وقد شرحناه في غير هذا الموضع.
وليس أمر الخلافة كما صورها بعض المستلَبين المتهكمين:
(طبعاً ستلغى البنوك الغير إسلامية , وسوف تشفر كل الفضائيات ما عدا الإسلامية , وسوف يبث التلفزيون المحلي فقط الأفلام والوثائق الإسلامية التي تحكي عن الغزوات والفتوحات، وسوف تكون ساعات تجويد القرآن من أكثر البرامج المقررة, وسوف يشفر الانترنيت ,وستفرض الصلاة فرضاً على الجميع من الأطفال حتى العجزة الشيوخ بالعصا.
وما يتبعها من النوم المبكر من أجل الإجبار على صلاة الفجر.
وسوف تغلق محلات بيع شرائط وسيديات الأغاني؛ لأن الغناء محرم.
أما المرأة ستمنع من العمل لأنها عورة, وعليها أن تلتف بالسواد، ووظيفتها تقديم المتعة للرجل وتربية الأولاد, وسوف ينتشر مبدأ الزواج المتعدد بشرط المحافظة على العدد أربعة.
وستتم مراقبة سياسة التعليم من المدارس الابتدائية وحتى الدراسات العليا سيتم التركيز على العلم الديني الشرعي، أما العلوم الدنيوية فثانوية ..
أما السياسة الخارجية؛ أي علاقة الخلافة بمن حولها ستحكمها قوانين دار الإسلام ودار الكفر، وستسعى هذه الخلافة إلى التمدد ونشر الدين الإسلامي، بناء على آية السيف التي نسخت كل آيات الرحمة…وسوف تفرض الجزية على أهل الكتاب إن وجدوا ولم يقتلوا في دار الإسلام. وسيكون هدف السياسة الخارجية أسلمة العالم بالقوة، أو أن يدفع العالم للخلافة الجزية ..
أما موقف الخلافة من المتنورين الإسلاميين؛ فسوف ترصد الخلافة جوائز مالية كبيرة لملاحقة وقتل الكتاب الإسلاميين المصلحين..
ويجب على أمير المؤمنين إصدار الحكم والفتوى عليهم بالقتل أينما كانوا وما على المجاهدين سوى التنفيذ)!!
وانظر مقالا حسنا للكاتب حسن الحسن: “شبهات متهافتة للنيل من مشروع الخلافة”. (الجزيرة نت).
فهذا النظر المشوه لحقيقة الخلافة الإسلامية والذي ساهمت في بلورته في عقول هؤلاء الضعفاء تصرفاتُ التنظيمات المشبوهة كداعش وداحش وما حولهما حتى صار مادة للتندر والتمرد وصار مادة للكوميديا التلفزيونية والسيناريوهات السينمائية بامتياز..
(وانظر للاطلاع كتاب: “عالم داعش” لهشام الهاشمي، وكتاب: “صورة الإسلاميين على الشاشة” للباحث المتميز أحمد سالم نفع الله به).
ومن هنا يمكن أن نلخص: “فساد إعلان خرافة الخلافة الداعشية المشبوهة”؛ من حيث النظر الفقهي في ستة أوجه باقتضاب:
الوجه الأول: أن الخلافة “الحق” جامعة، وهذه “الباطل” مفرقة:
إن مقصد الشريعة الأول من تنصيب الخلافة -كما أشرنا سابقا-؛ هو تحقيق اجتماع الناس على ما ينفعهم؛ وكان من وسائله شرعاً هو تنصيب خليفة بأوصافه المعتبرة عدالة وحكمة وقوة؛ قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]
قال غير واحد من أهل التفسير بأن هداهم لسبل الحكم الرشيد وتنصيب الإمامة…
وليست هي في ذاتها مقصدا؛ ومن هنا لم يختلف العلماء المعتبرين في وسائل الحكم وطرائقه -ولا اعتبار بقول من يتشدد في بعض الأوعية لذاتها كالانتخابات والبرلمان فهو خارج عن تحرير الفقه ومقاصد الفقهاء كبعض السلفية المخابراتية الرضوانية المشوهة- في مسمى”الدولة الإسلامية” التي جهل العلمانيون مقاصدها فسموها: “دولة الله”؛ ليتلاعبوا بالعناوين فيسهل عليهم التملص من قطعيات الشريعة؛ فسواء سميناها خلافة أو ملكا أو رئاسة أو دولة أو جمهورية أو امبراطورية أو غير ذلك؛ فما هذه إلا قوالب لا ينظر الشارع إلا إلى مضمونها هل يحقق: “العدل والمصلحة”؛ الذي جعله الله أمانةً يتحملها بنو الإنسان أم لا؟
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله:
“وإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو بأشكالها الصورية غير المستوفية للمعاني الشرعية، فتقع في أخطاء في الفقه”؛ والذي جاءتنا به الداعشية المظلمة الظالمة -رغم كثرة ضحاياها من الشباب الصادقين وخبايا المكر العالمي فيها-؛ هو مزيد تفرقة وإمعان في تمزيق الأمة ليزيد الكَلَبُ والتكالب؛ فلم تحقق للخلافة لفظاً، وطلب لبن العصفور أمكن من تحقيقها الخلافة مضموناً وروحاً ومعنىًٰ.
الوجه الثاني: أن الخلافة تمكين للدين في نفوس المنصفين؛ وهذه ترهيب منه:
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]
قال ابن العربي المالكي في الأحكام 3/409:
“وقال علماؤنا: هذه الآية وعد حق وقول صدق؛ يدل ذلك على صحة إمامة الخلفاء الأربعة؛ لأنه لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فأولئك مقطوع بإمامتهم، متفق عليهم.
وصدق وعد الله فيهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، واستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين؛ فنفذ الوعد فيهم، وصدق الكلام فيهم.
وإذا لم يكن هذا الوعد بهم ينجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد؛ ففيمن يكون إذن؟
وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده.
قام أبو بكر بدعوة الحق، واتفاق الخلق، وواضح الحجة، وبرهان الدين، وأدلة اليقين؛ فبايعه الصحابة.
ثم استخلف عمر فلزمت الخلافة، ووجبت النيابة، وتعين السمع والطاعة.
ثم جعلها عمر شورى؛ فصارت لعثمان بالنظر الصحيح، والتبجيل الصريح، والمساق الفسيح؛ جعل الثلاثة أمرهم إلى ثلاثة، ثم أخرج عبد الرحمن نفسه بشرط أن يكون إلى من اختاره من الرجلين، فاختار عثمان، وما عدل عن الخيار، وقدمه وحقه التقديم على علي.
ثم قتل عثمان مظلوما في نفسه، مظلوما جميع الخلق فيه؛ فلم يبق إلا علي أخذا بالأفضل فالأفضل، وانتقالا من الأول إلى الأول؛ فلا إشكال لمن جنف عن المحال أن التنزيل على هؤلاء الأربعة وعد الله في هذه الآية.
ثم كملت لحال أبي بكر فاتحة وخاتمة.
ثم كملت لعمر وكسر الباب؛ فاختلط القشار باللباب، وانجرت الحال مع عثمان واضحة للعقلاء، معترضا عليها من الحمقى.
ثم نفذ القدر بقتله إيثارا للخلق منه على نفسه وأهله.
ثم قام علي أحسن قيام لو ساعده النقض والإبرام، ولكنه وجد الأمور نشرا، وما رام رتق خصم إلا انفتق عليه خصم، ولا حاول طي منتشر إلا عارضه عليه أشر، ونسبت إليه أمور هو منها بريء براءة الشمس من الدنس، والماء من القبس.
وطالبه الأجل حتى غلبه؛ فانقطعت الخلافة، وصارت الدنيا ملكا تارة لمن غلب، وأخرى لمن خلب، حتى انتهى الوعد الصادق ابتداؤه وانتهاؤه.
أما الابتداء فهذه الآية، وأما الانتهاء فبحديث سفينة قال سعيد بن حمدان عن سفينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء“.
قال سعيد: قال لي سفينة:
“أمسك عليك: أبو بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي كذا”.
قال سعيد: قلت لسفينة:
“إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن خليفة”!
قال: “كذبت استاه بنو الزرقاء”.
يعني بني مروان.
زاد في رواية: “اعدد: أبو بكر كذا، وعمر كذا، وعثمان كذا، وعلي كذا، والحسن ستة أشهر؛ فهؤلاء ثلاثون سنة”اهـ.
فهذه سيرة الخلافة الراشدة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سنة للمقتدين قامت على الدعوة والتبليغ ليدخل الناس في دين الله أفواجا لا ليخرجوا منه تقتيلا واعوجاجا ..
الوجه الثالث: أن الخلافة حسن تدبير وهذه فساد وتدمير:
سبق وأن أشرنا إلى أن “السلطنة/الملك/رئاسة الدولة ..” في الإسلام هي فضل من رب العالمين هدى لسننه فطرة الناس أجمعين كما قال الشاعر:
لا يصلح الناس لا سراة لهم …. ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقد بين الله سبحانه أن بها يحصل الدفع والدفاع لجلب المنافع ولدفع المضار حتى لا يعم الفساد في الأرض ديناً ودنيا.
وأوضحه سبحانه في قوله في آية الحج: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}
قال القاسمي رحمه الله:
“أي لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين؛ لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها.
وأوضح منه قول القرطبي فيها:
“أي: لولا ما شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، لَاسْتَوْلَى أَهْلُ الشِّرْكِ وَعَطَّلُوا مَا بَنَتْهُ أَرْبَابُ الدِّيَانَاتِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّهُ دَفَعَ بِأَنْ أَوْجَبَ الْقِتَالَ لِيَتَفَرَّغَ أَهْلُ الدِّينِ لِلْعِبَادَةِ، فَالْجِهَادُ أَمْرٌ مُتَقَدِّمٌ فِي الْأُمَمِ، وَبِهِ صَلَحَتِ الشَّرَائِعُ وَاجْتَمَعَتِ الْمُتَعَبَّدَاتُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أُذِنَ فِي الْقِتَالِ، فَلْيُقَاتِلِ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ قَوِيَ هَذَا الأمر في القتال بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ـ الْآيَةَ، أَيْ لَوْلَا الْقِتَالُ وَالْجِهَادُ لَتَغَلَّبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، فَمَنِ اسْتَبْشَعَ مِنَ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ الْجِهَادَ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَذْهَبِهِ، إِذْ لَوْلَا الْقِتَالُ لَمَا بَقِيَ الدِّينُ الَّذِي يُذَبُّ عَنْهُ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي اتُّخِذَتْ قَبْلَ تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ، وَقَبْلَ نَسْخِ تِلْكَ الْمِلَلِ بِالْإِسْلَامِ إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ لَوْلَا هَذَا الدَّفْعُ لَهُدِّمَ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسَاجِدُ”. انتهى.
فالخلافة رحمة على كل المسالمين من أهل الإسلام ومن أهل السلام، من كل ملة ودين وفكر ومعتقد؛ كما قال الله تعالى: {ادخلوا في السلم كافة}، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
الوجه الرابع: أن الخلافة هي على منهاج النبوة
وهذه لا تختلف عن حكم الطواغيت واشتباه علاقاتهم بأعداء الأمة؛ فقد نص العلماء باتفاق -كما سيأتي في الوجه الخامس-؛ بأن الإمامة اتفاق ورضى، وليست غصباً وإكراها؛ وأن المتغلب -ولو كان من الصالحين المقيمين للدنيا والدين- لا إمامة له إلا استسلاما، وليس تسليماً باتفاق الأمة سلفا وخلفًا؛ فإن الشريعة أجل من أن تشرعن الفساد وتسوغ الإفساد وتقر الظلم والظالمين؛ ومن ظن ذلك فقد أخطأ في فهم كلام العلماء الذين أجروا بعض النوازل إجراء المكره الذي لا يقر المنكر وإن غصب عليه وقهر بين يديه على حد قوله تعالى: “إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان”.
فنحن لا نرى فرقاً -مع اعتبار شدة التباس الأمر ووقوع الضحايا واستدراج الأبرياء لهذه الساحات العمياء بحيث لا نعمم في المؤاخذة ولا نتناسى أيا من الدواعش وعلى رأسها أمريكا وإيران- بين بطش الطاغية الأسد وإجرام العسكر السيسي وفتنة الحوثيين وبين ما تفعله الداعشية المظلمة؛ فكلهم منكَر على الأمة واغتصاب لخيراتها وأخيارها.
فهذه الأجواء المشحونة بأشباه الطواغيت وبالتطرف والغلو والتكفير والتفجير وتخوين بعض لبعض حتى اسود الحال وتعاظمت الضغائن، وصاروا يعملون لمصلحة العدو فساهموا في غرق العراق وسطوة المالكي المجرم، كما أخروا انتصار ثورة الأحرار بالشام ومكنوا للرافضة الأشرار ..
أَوَ هكذا ترفع أعلام الخلافة الراشدة أم أنه تنكيس لأعلام الأمة وتمريغ لماضيها وحاضرها في التراب لم يستفد منه إلا الطغاة وأعوان الظلمة من علماء السوء وإعلام بني علمان؟!
فألحقوا المظلوم بالظالم والعالم بالجاهل والبريء بالمتهم وعقلاء الأمة العلماء العاملين من سلفيين وإخوان مسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية من الصالحين الوسطيين المصلحين بالسفهاء؛ التكفيريين المخربين ..
ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ قال: “إن الإسلام يظلم باسم الإسلام؛ يظلمه علماء يخدمون السلطة، وشبان عديمو الفقه، غوغاء حيارى”!
ومن حِكَمِ القائد المجاهد علي عزت بيجوفيتش:
“إن عقيدة الطاعة المطلقة للحاكم قادت تدريجيا ومن خلال منحدر مميز ومعلل إلى انهيار الحضارة الإسلامية”.
والله المستعان.
الوجه الخامس: أن الخلافة رضى ومشورة
وهذه فلتة أمر دبر بليل لا يدرى ما وراء أكمتها والله بما يعملون محيط ..
فالبيعة في الإسلام مفهوم يعني: “العهد المتبادل بين الإمام والأمة الإسلامية في إقامة نظام الخلافة الإسلامية وفقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهي عبارة عن ميثاق الولاء للنظام السياسي الإسلامي، أو الخلافة الإسلامية والالتزام بجماعة المسلمين، والطاعة لإمامهم”. [البيعة في النظام السياسي ص35].
وهي العهد على الطاعة؛ كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في نفسه، فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره.
والبيعة أيضاً تعني: “إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة للأمير في المنشط والمكره والعسر واليسر، وعدم منازعته الأمر وتفويض الأمور إليه”.
[النظام السياسي في الإسلام ص299].
وإذا تأملنا في الظروف والملابسات التي قارنت الإعلان الداعشي الغاشم؛ وجدناها غير متوفرة على أدنى درجات “الإشهار المعتبر”، و”الرضى والمشورة” التي تجمع خيار الأمة وتوحد اتفاقها على ما يصلحها؛ بل إنها حققت الضد تماماً حتى عند من يسمون “بعلماء الجهاد” الذين ينتمون لفكرهم الهائج المائج المزيج المريج؛ كما سأذكر عن بعض تنظيماتهم في الوجه السادس ..
فضلاً عن علماء العلم والدعوة والاعتدال؛ وعلى رأسهم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في بيان الخامس من رمضان 3/7/2014 ممثلا في الشيخ العلامة المجتهد شيخنا المرابط يوسف القرضاوي بارك الله في عمره ونفع الأمة بعلومه وجهاده، ومن معه من إخوانه العلماء الكبار شرقاً وغرباً؛ كمشايخنا مفتي المملكة العربية السعودية: العلامة عبد العزيز آل الشيخ، والعلامة أحمد الريسوني، والعلامة محمد الحسن ولد الددو حفظ الله الجميع؛ فخلافة تخلو من كبار خيار الأمة بمختلف شرائحهم ومذاهبهم وبلادهم؛ بل وتحظى هذه الخلافة الخرافة بخلافهم وانتقادهم وامتعاضهم وإنكارهم؛ أنى لها أن تحقق للأمة أهدافها أو تسمو بها إلى عليائها؟!
وفي صحيح البخاري في حديث عمر الطويل:
“من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا“.
وروى الخلال عنه في السنة باب الإنكار على من خرج على السلطان: (الحديث: 112):
أَخْبَرَنَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : أَعْطَانَا ابْنُ الأَشْجَعِيِّ كُتُبًا مِنْ كُتُبِ أَبِيهِ ، فَنَسَخْنَا مِنْ كِتَابِ الأَشْجَعِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ وَاصِلٍ ، عَنِ ابْنَةَ الْمَعْرُورِ ، عَنِ الْمَعْرُورِ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ ، يَقُولُ :
“مَنْ دَعَا إِلَى أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ“.
الوجه السادس: أن الخلافة رأس ونخبة وأمة ومشروع وعمل:
إن هذا الفضل الإلهي على العالمين بجمع كلمتهم وترتيب أمورهم بحيث لا يخربون دنياهم ولا آخرتهم؛ هو أمر يجمع بين الشرع والقدر، وليس شيئا يأتينا بغتة في ساعة من نهار؛ بل هو امتثال شرعي وناموس كوني؛
إن حققنا له شرائطه ومهدنا له بوادره أتم ربنا وأعان؛ وإلا فما هو إلا أضغاث أحلام وأوهام وراء أوهام ..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]
فلا ينبغي للأمة أن تتهاوى فتستصعب الأمر ولا تعمل مكوناتها على حسن تحصيله لأنه مطلب شرعي بإجماع ولا بد من بذل أسباب التدافع إصلاحاً وتقليلا للفساد كما نشهد من محاولات الصادقين في الأمة شرقاً وغربا؛ كحزب العدالة التركي، وحزب العدالة المغربي، وتواصل الموريتاني وما بين ذلك..
ولا ينبغي لها أيضاً أن تتماهى فتظن الأمر يأتي بالتمييع أو بالترقيع فتنجرف وراء كل ناعق وتميد بها كل ريح؛ فالتوطين مطلب شرعي أيضاً.
ومن هذا الوجه تكلم الفقهاء في:
– أوصاف الخليفة ابتداء واضطرارا
– وفي صفة أهل مشورته من أهل الحل والعقد
– وتكلموا في يقظة الأمة للبيعة وللعزل أيضاً
– وفيما لطرفي العقد وما عليهما لتتحقق التنمية ولتنصلح شئوون الأمة بها داخليا وخارجيا..
فهذه المكونات بتفاصيلها المطولة عند الفقهاء لا نكاد نجدها تنطبق على هذا التنظيم المختلق حتى في أدنى صورها بدء بخليفتها المنصوب!!!
الذي لا تدرى عدالته ولا مكانته ولا نسبه ولا هدفه ولا برنامجه ولا آلياته ولا أعوانه ولا آفاقه..
سوى ما نرى من سوءات وعورات تتكشف كل يوم فتزيد من رثائنا لحال أمتنا الذي ارتهن بين فكي طاغية مستغِل عنيد وتكفيري مستغَل بليد ..
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
“وكثير من الجهلة كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أنَّ الدِّين إنَّما قام بالسَّيف، وهذا جهل قبيح من وجهين:
أحدهما: أنَّ المحفوظ أنَّه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس.
الثاني: أنَّ الدين إنَّما قام بالوحي؛ وأمَّا السَّيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنَّما فُتحت بالقرآن ولم تُفتح بالسيف”. زاد المعاد 1: 178
ونقل الإمام البغوي في “شرح السنة”؛ عن حميد بن زنجويه: “أن الخلافة إنما هي للذين صدقوا هذا الاسم بأعمالهم، وتمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، فإذا خالفوا السنة، وبدلوا السيرة، فهم حينئذ ملوك، وإن كانت أساميهم الخلفاء”.
قال الماورديُّ رحمه الله:
“الإمامةُ موضوعةٌ لخِلافة النبوَّة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا”.
يقول العلَّامة الشوكانيُّ في [السيل الجرار] (4/512):
“وأمَّا بعدَ انتشار الإسلام، واتِّساع رُقعته، وتباعُد أطرافه، فمعلومٌ أنَّه قد صار في كلِّ قطر أو أقطار: الولاية إلى إمامٍ أو سلطان، وفي القُطر الآخَر أو الأقطار كذلك.
ولا ينفُذ لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قُطر الآخَر وأقطاره التي رجعتْ إلى ولايته؛ فلا بأس بتعدُّد الأئمَّة والسَّلاطين، ويجب الطاعةُ لكلِّ واحد منهم بعدَ البَيعة له على أهل القُطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القُطر الآخَر”.
وأما المنهج الذي نبعت به هذه التنظيمات ونبتت به نابتة السوء -كفانا الله والضحايا شرها وشر المندسين على الأمة- فيظهر بجلاء منذ سقوط الموصل الثلاثاء 10 يونيو2014؛ فلم يعد إعلان البغدادي في 9أبريل2013 هزلا عابراً بل هي صنيعة لها آلة تحكم سيبرزها الناطق الرسمي عنها المدعو “أبو محمد العدناني” في التسجيل الشهير المسمى: “هذا وعد الله”!
فيظهر الوجه الكريه إذ يقول: “تبا لتلك الأمة التي يريدون جمعها أمة العلمانيين والديمقراطيين والوطنيين أمة المرجئة والإخوان والسرورية..
ومن أراد شق الصف فافلقوا رأسه بالرصاص وأخرجوا ما فيه كائنا من كان ولا كرامة”!!
في الوقت الذي نجد فيه “أبو مارية القحطاني” المسئول الشرعي”لجبهة النصرة” يؤكد أن تنظيم الدولة ينتمي إلى”الخوارج الغلاة”!
كما قامت تسع فصائل إسلامية سورية مسلحة بتأييد أبو مارية وأعلنوا في بيان لهم:
(إننا نجد أن إعلان الخوارج للخلافة الإسلامية باطل شرعا وعقلاً ولا يغير شيئا من وصفهم ولا طريقة التعامل معهم).
وكتب المنظر (الجهادي) الأردني الشهير أبو محمد المقدسي مقالا منتقِداً بعنوان: “هذا بعض ما عندي وليس كله”.
(انظر مقالا رصديا لأبو هنية بعنوان: “إعلان الخلافة” موقع الجزيرة نت).
الوجه السابع: خلاصة خاتمة:
إن لفظ “الخلافة” لا تتعلق به أحكام شرعية، ولا نعرف في الشريعة ما يوجب استعماله، ولا ما يحظر استعمال غيره مما استحدث في فقه الدولة المعاصرة؛ كالدستور والرئاسة والبرلمان والجهوية والملكية الدستورية .. إلـخ.
وإنما المتعلق الشرعي في معاني رسخها التشريع السياسي الإسلامي؛ جماعها: تحكيم الشرع وتحقيق العدل وأداء أمانات الناس؛ حفظا لمصالحهم المتنوعة ..
وهو ما قاربت تحقيقه الدول والأنظمة في العالم الإسلامي؛ على تفاوت كبير ..
وما دول الخلافة إلا نماذج استجمعت كثيرا من تلك المعاني في إطار وحدة جامعة؛ تعين على تعزيز وترسيخ المقاصد الشرعية للعملية السياسية ..
بخلاف ما أعلن عنه التنظيم المشبوه الذي يناقض تلك المقاصد ويجافي تلك المعاني ..
وبخلاف ما يفوه به العلمانيون المستلبون المخدوعون ببريق يخفي شرور ومظالم (الحضارة) الغربية؛ من استهزاء وتهكم بشريعة ربهم ..
كما أؤكد في الختام؛ أن ما نرى في عالمنا اليوم من وسائل لتدبير شئون الناس وتدخل في مسمى “الديمقراطية”؛ كالانتخابات والتصويت والجمعيات والبرلمان والجماعات والجهويات؛ إنما هي “بدائل ضرورة” أو “إجراءات إدارية مباحة غير محظورة”؛ أملتها الحال المتردية للأمة منذ قرون؛ حيث وجد الصادقون وضعية الأمة تجاوزت “وضع الرجل المريض”، بل والمتخلف، بل والعالة بل والمشوه ذاتاً ومعنى؛ وأن الأعداء يتحكمون في مقاليدها واستخدموا من رجالها من صاروا منها وإن كانوا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؛
فمن أراد الإصلاح حقاً -وما أصعبه وما أطول طريقه-؛ فإنه سيوقن بوجوب استثمار الموجود والانخراط فيه بما يضمن على الأقل عدم تفرد المفسدين به؛ فيستقوون أكثر ويفسدون أكثر؛ ومن أنصف علم أن هذا بديل واجب مرحليا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحالف والجوار والهجرة للحبشة…
فكلها قوانين وضعية ليست صافية من حيث الوجهة الإسلامية، ولكنها مرحلية ضرورية وبديل وسط عن الترك والسلبية والأعمال الخفية؛ وعن الفوضى والاضطراب والعنف؛ مع وجوب الوعي الكامل بمحظورات البديل الاضطراري، وضرورة التمييز بينه وبين الاقتباس الشرعي الحضاري؛ وهو أمر أجلى من تجليته؛ والله أعلم ..
وسوم :عين على السياسة
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI