أنشطة وأخبار

ملاحظة فقهية حول العلاقة بين الجنسين

تاريخ النشر : 26/02/2019

عدد المشاهدات : 1419


ملاحظة فقهية حول العلاقة بين الجنسين ..

بقلم: حماد القباج

العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لها  في التشريع الإسلامي محددات يمكن إجمالها في ثلاثة أصول أخلاقية: العفة، الاحترام والحياء.

وفي ضوء تلك المحددات وُضِعت ضوابط التعامل والتواصل بين الجنسين؛ بما في ذلك التعامل من تعاون وتكامل لمصلحة المجتمع.

وجماع تلك الضوابط: وجوب الغض من البصر وحفظ الفرج:

قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31]

وقد شَرحتِ السنةُ النبوية هذا الموضوع، وقدم له المجتمع النبوي نموذجا جميلا يتوسط تطرفين استفحلا في المجتمعات:

1 تطرف التحلل الأخلاقي الذي يخل بالعفة والاحترام والحياء

2 تطرف الغلو في ممارسة بعض أحكام وآداب الشرع الإسلامي

وهذا الثاني هو ما أريد مناقشته في هذه المقالة:

إن الغلو المذكور يتلخص في إلزام المرأة والرجل بما لم يُلزِمهما به الشرع الإلهي بذريعة اتقاء الفتنة؛ كإلزام المرأة بتغطية وجهها، وحظر التواصل بين الجنسين إلا للضرورة، وتحريم الاختلاط مطلقا في غير المناسك، وتحريم قيادة السيارة على المرأة …

وفي هذا الصدد؛ وقعت مبالغات في مقصد اتقاء الفتنة؛ تجعل من شخصية المسلم شخصية ضعيفة مضطربة تَفر من اللقاء ويُرهبها التواصلُ؛ وتولدت عن هذه الحال النفسية إلزاماتٌ غير شرعية ..

ولتجديد الصورة الشرعية في هذا الموضوع؛ لا بد أن نتأمل في بعض معاني الآية الكريمة المؤسِسة لأحكامه؛ قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30].

إن التبعيض في الأمر الإلهي؛ ظاهر في أن المؤمنين لم يؤمروا بالغض مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما لا يحلُّ[1].

قال الشوكاني في تفسيره: “و«من» في قوله: “من أبصارهم” هي: التبعيضية، وإليه ذهب الأكثرون، وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل”اهـ[2].

وواضح أن الذي لا يحل هو: النظر المقرون بالتشهي واستدعاء اللذة؛ لأنه ذريعة إلى الزنا المحَرّم بالنص، وهو سلوك منحط لا يليق بأخلاق أهل الإيمان؛ فهذا النظر هو المحرم شرعا كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي الذي ينص مذهبه على أنه “يباح للرجل النظر إلى المرأة إذا أمِن الفتنة، ونظر لغير شهوة”[3].

قال المراغي في تفسيره :”{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}، فلا ينظرن إلى ما لا يحل النظر إليه من عورات الرجال والنساء، فإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرُم، وبدونه لا يحرم”اهـ([4]).

فالحكم إذن؛ مرتبط بمقصد النظر؛ إن كان المقصد حراما فالنظر حرام، وإن كان مشروعا فالنظر مشروع؛ وقد تصل المشروعية إلى درجة الوجوب في بعض الحالات؛ كبعض أنواع التقاضي والعلاج ..

ويؤكد نسبية التحريم (التبعيض): حديثُ عائشة رضي الله عنها قالت: “لو رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يسترنى بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون فى المسجد، حتى أكون أنا الذى أسأم“. متفق عليه

وفي حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت أم شريك؛ ثم قال: “تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند عبد الله بن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده ولا يراك” ([5]).

فالنظرُ الذي وجَّه النبيُ صلى الله عليه وسلم لتفاديه؛ هو الذي تكون فيه المرأة قد وضعت ثيابها، وليس النظر مطلقا.

ومن هنا نتأكد بأن نظر أحد الجنسين إلى الآخر المصحوب بتقصد استدعاء الغريزة الجنسية هو الذي نهت عنه الآية الكريمة، وهي الذريعة التي ينبغي سدها لحفظ الفرج من الزنا.

أما النظر لمقصد سليم؛ كالتعلم والتجارة والتعاون على مصالح مشروعة .. فهو مباح كما هو الأصل في كل المعاملات.

وفي ضوء ما تقدم ينبغي أن نفهم الأحاديث النبوية التي جاءت بالأمر بصرف البصر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية“.

فدلالة هذا الحديث مجملة تحتمل معان وليس معنى واحدا؛ وتبيين الإجمال في ضوء ما سبق يشير إلى أن المعنى قد يكون: لا تتبع النظرة البريئة والفجائية بالنظرة المريبة الطماعة؛ فإن الأولى لا إثم عليك فيها، أما الثانية فأنت آثم بسببها.

إن التواصل والتعاون على الخير هو الأصل في العلاقة بين الرجال والنساء كما ظهر ذلك وترسخ في المجتمع النبوي؛ قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]

والنبي صلى الله عليه وسلم أقر صفوان بن المعطل على اصطحاب عائشة للرجوع إلى المدينة؛ ولولا إرجاف المنافقين لما تطورت الأحداث إلى تلك الأزمة الخطيرة المعروفة بحادثة الإفك.

ووجود الرجال والنساء في المكان الواحد كان مظهرا معروفا في المجتمع النبوي؛ في المسجد والسوق والبيوت وغيرها، والرجال والنساء يخاطب بعضهم بعضا ويتكلم بعضهم أمام بعض، مع المحافظة على الاحترام والعفة والحياء.

والمرأة في المجتمع المدني كانت تخرج، وتقوم بأعمال مختلفة وتسهم في أنشطة متنوعة، وتشارك في المهن والصناعات والمهارات، وتحضر العيد والجمعة والجماعات… إلـخ.

قال الشيخ الألباني: “التشدد في الدين لا يأتي بخير، ولا يمكن أن يخرج لنا جيلا من الفتيات المسلمات يحملن الإسلام علمًا وتطبيقًا بتوسط واعتدال، لا إفراط فيه ولا تفريط ..

إنني لا أستطيع أن أتصور أن التشديد يمكن أن يخرج لنا نساء سلفيات بإمكانهن أن يقمن بكل ما تطلبه حياتهن الاجتماعية المشروعة، على نمط ما كان عليه نساء السلف الصالح، ولا بأس من ذكر نماذج صالحة منهن:

1 أم شريك الأنصارية التي كان ينزل عليها الضيفان ..

2 وامرأة أبي أسيد التي صنعت الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يوم دعاهم زوجها أبو أسيد يوم بنى بها، فكانت هي خادمهم وهي العروس.

3 وأسماء بنت أبي بكر التي كانت تخدم الزبير زوجها: تعلف فرسه، وتكفيه مؤنته، وتسوسه، وتنقل النوى على رأسها من أرض الزبير، وهي على بعد ثلثي فرسخ (أكثر من ثلاثة كيلومترات).

4 والمرأة الأنصارية التي استقبلت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبسطت له تحت النخيل، ورشت حوله، وذبحت له طعامًا.

5 وعائشة وأم سليم اللتان كانتا تحملان القرب وتسقيان القوم”[6].

فهذا هو الأصل في المجتمع النبوي ..؛ فإن ظهر سلوك يخل بالحياء والاحترام؛ تم علاجه بدون مبالغة، ولا خروج عن الأصل:

عن ابن عباس أنه قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس؛ فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لأن لا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر؛ فكان إذا ركع نظر من تحت إبطه فأنزل الله في شأنها: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} [الحجر: 24].

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع صلاة النساء في المسجد بسبب هذا السلوك؛ بل عالج الأمر باعتدال وحث المسلمين على الترفع عن هذا السلوك وقال: “خير صفوف الرجال أولها ..”. الحديث رواه مسلم.

إن الأصل في هذا الموضوع هو وجوب تطهير القلب وتزكية النفس؛ بحيث يصل المسلم إلى القلب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض“.

فالمسلم مطالب أولا بأن ينمي نفسه ويرتقي بها إلى درجة تجعله واثقا بإيمانه مطمئنا إلى خوفه من ربه والتزامه بحفظ فرجه؛ فهذه هي الغاية، أما أحكام سد الذريعة فهي وسائل ومكملات تساعد على تحقيق تلكم الغاية.

وما تقدم لا يدركه بعض المتدينين الذين ضخموا أحكام سد الذرائع وجعلوها أصلا؛ حتى صار الواحد منهم لا يستطيع أن يملك نفسه في تعامله مع الجنس الآخر، ولا يرى فيه إلا سببا للفتنة؛ فهو أشبه ما يكون بالمزكوم الضعيف المناعة الذي يقتصر في علاج الزكام على أدوية الزكام وينسى علاج ضعف المناعة الذي هو الأصل المتسبب في مرض الزكام وغيره ..

ومن الآثار السلوكية السلبية المترتبة على هذا الخلل في التصور؛ أن صاحبه يدخل في سلوك انعزالي مذموم، ويهمل العمل على تقوية نفسه وإصلاح قلبه، وتضطرب نفسه عند أدنى تواصل، ويقع في نوع من النفاق يظهر فيه الصلاح فإذا خلا بمحارم الله انتهكها، ويحظر على الناس مشاهدة ما ينفعهم، ويلزم المرأة والرجل والمجتمع بما لم يلزمهم به الشرع بذريعة سد باب الفتنة ..

ومن الإلزامات الفقهية التي يجب إعادة النظر فيها -في هذا السياق-؛ قول بعض الفقهاء: الشرع لم يوجب على المرأة تغطية وجهها؛ لكن إن كانت جميلة فيجب عليها تغطيته سدا لباب الفتنة!

ونحوه قول القائل: الشرع لم يحرم الاختلاط؛ لكن يجب منعه مطلقا سدا لباب الفتنة!

ونحوه أيضا قول القائل: الشرع لم يحرم على المرأة قيادة السيارة؛ لكن يجب منع ذلك سدا لباب الفتنة!

فهذا قول الفقيه الذي قاله بنية حسنة ولمقاصد شرعية[7]؛ لكنه بسبب هذه البدعة ترك سنة؛ وذهل عن التوجيه الشرعي لوقاية النفس من شر الفتنة؛ ألا وهو: السعي للوصول بالقلب إلى درجة من الإيمان لا تضر معها فتنة ما دامت السماوات والأرض.

وصاحب هذا القلب هو المسلم القوي الأحب إلى الله تعالى، وهو صاحب الشخصية القوية التي تخالط الناس وتتفاعل معهم لبناء المجتمع وتنميته..

أما من غلب عليه الافتتان بالجنس الآخر كلما نظر إليه أو تعامل معه؛ فليعلم أن هذا مؤشر على ضعف في إيمانه أو مرض في قلبه؛ وأن واجبه علاج ذلك الوضع وليس فرض مستلزماته على المجتمع حتى يصير مجتمعا ضعيفا متخلفا.

[1]  زاد المسير في علم التفسير (3/ 289).

[2]  فتح القدير للشوكاني (4/ 26)

[3]  المغني لابن قدامة (7/ 102)

([4]) تفسير المراغي (18/99).

([5]) رواه مالك (1341) ومن طريقه مسلم (1480).

[6]  جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة (ص: 18).

[7]  بالقدر الذي نعتز بالفقه الإسلامي ونسجل إعجابنا بعبقريته ونشهد بأهمية ما أنتجه من ثروة فكرية تسهم في بناء الإنسان وإصلاحه وترقيته؛ بقدر ما ينبغي أن نشهد أيضا بأن مخرجاته جانبت الصواب واعتدال التشريع الإلهي في عدد من الاجتهادات والاستنباطات؛ لا سيما في موضوع العلاقة بين الجنسين الذي لا يحتاج الباحث إلى كثير من التأمل ليدرك بأن بعض الفقهاء ابتعدوا فيه -بنية حسنة-؛ عن يسر واعتدال السنة النبوية وتطبيقاتها في المجتمع الإسلامي الأول، والمتخصص في دراسة قضايا المرأة في الفقه والتاريخ؛ يرى بوضوح الفرق في مواطن بين ما قرره القرآن والسنة وما ألزم به بعض الفقهاء المرأة والأسرة من أحكام ..

وسوم :

مواد ذات صلة

وحش الحرية

تاريخ النشر : 3/08/2022

عدد المشاهدات : 1233

سلوك التعري في الشواطئ ..

تاريخ النشر : 27/07/2022

عدد المشاهدات : 1657

بخور الفقه ونتانة العولمة

تاريخ النشر : 29/06/2022

عدد المشاهدات : 779

المساواة في الإرث

تاريخ النشر : 26/06/2022

عدد المشاهدات : 1454

مفاسد الإجهاض

تاريخ النشر : 25/03/2022

عدد المشاهدات : 930

'