تاريخ النشر : 6/01/2019
عدد المشاهدات : 1951
بقلم: حماد القباج
الفتوحات الإسلامية اصطلاح أطلق على حركة توسع الدولة الإسلامية؛ التي بدأت منذ عهد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم واستمرت إلى عهد الدولة العثمانية ..
ولا تهدف هذه المقالة إلى إضفاء قدسيةٍ ما على ممارسات الدول الإسلامية أثناء حركتها التوسعية؛ فإن هذه الممارسات تصيب وتخطأ وتهتدي وتضل ..
لكن هدف المقالة هو محاولة الجواب عن سؤال أساسي: ما مدى مشروعية تلك الحركة التوسعية في ميزان قيم الحق والعدل؟
وتتفرع عنه الأسئلة التالية:
طبيعة الدعوة الإسلامية؛ هل هي سلمية إقناعية أم عنيفة ترهيبية؟
هل تدخلت السلطة السياسية لمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبليغ رسالة ربه؟
هل فرضت تحدياتُ حماية الدعوة وإكراهاتُ تبليغِ الرسالة؛ توسعَ الدولة؟
وهل كان القتال في توسع الدولة: مقصدا أم ضرورة؟
وما هي المبادئ والقيم التي أطّرت ذلك التوسع؟
ولنبدأ الإجابة بالتذكير بحقيقة تاريخية؛ وهي أن موقف دولتي الروم والفرس من الدعوة المحمدية كان شبيها بموقف قريش من تلك الدعوة.
وقد أجمعتْ مراجعُ السيرة النبوية؛ على أن السلمية –رفقا ورحمة وحِلما-؛ كانت من أساسيات وسمات المنهاج النبوي في الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالته إلى الناس، كما اتفقت تلك المراجع على أن الزعامة السياسية في قريش واجهت تلك الدعوة بقدر كبير ومتزايد من العنف اللفظي والجسدي، والإرهاب الحسي والمعنوي.
وهو ما اضطر المسلمين إلى التنازل عن أرضهم وممتلكاتهم، والهجرة من مكة إلى المدينة لتأسيس دولة تحميهم من الظلم وتضمن حقهم في التعبير عن قناعاتهم الإيمانية ونصرة الرسالة المحمدية.
ومن خلال هذه الدولة؛ قاد النبي صلى الله عليه وسلم غزواته المشهورة في التاريخ الإنساني بعدالة قضيتها وأخلاقية ممارساتها؛ وعددُها: 22 غزوة؛ أولها: غَزْوَة ودان في أول السنة الثانية للهجرة، والثانية: غَزْوَة تَبُوك سنة تسع.
وقاتل صلّى اللَّه عليه وسلّم في تسع منها؛ وهي: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وقيل أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتل في وادي القرى والغابة، ولم يكن في سائرها قتال أصلا[1].
ومن خلال هذه الدولة؛ تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع ملوك الأرض بشكل حضاري سلمي ينبع من خُلق الرحمة الذي كان السمة الأبرز في منهاجه الدعوي؛ مصداقا لقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
ولمّا أخبر أصحابَه بأنه سيراسل الملوك والقادة لدعوتهم إلى الإسلام؛ قالوا له: “إن ملوك فارس والروم لا يقبلون إلا الرسائل المختومة”؛ فاتخذ عليه السلام خاتما نقش عليه: محمد رسول الله.
الرسالة النبوية إلى فلافيوس أغسطس هرقل (Flavius Heraclius):
“بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ، وَ{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}“. (صحيح البخاري).
الرسالة النبوية إلى كسرى أنوشيروان (Anushiruwan):
“بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ؛ سَلامُ اللهِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآَمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ اللهِ عز وجل؛ فَإِنِّي أنا رَسُولُ اللهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيِحِقُّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَأَسْلِم تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ“. (تاريخ الطبري)
الموقف العدواني للدولتين الرومانية والفارسية:
نلاحظ بأن الرسالتين النبويتين لم تتضمنا أي تهديد بالقتال؛ بل احترام وتودد وتخويف من الإثم في حال رفض الاستجابة ..
وقد واجه كسرى هذا الموقف الحضاري؛ بموقف عنيف ومزّق الرسالة النبوية؛ مرسلا بذلك إشارة إلى أنه سيتخذ موقفا عدوانيا ضد الدعوة الإسلامية والرسالة المحمدية:
عن ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ”. (رواه البخاري).
قال الزهري: “بلغني أن كسرى كتب إلى باذان (عامله على اليمن): “بلغني أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي، فسِرْ إليه؛ فإن تاب وإلا ابعث برأسه”. [فتح الباري لابن حجر (8/ 127)]
وأما إمبراطور الروم؛ فحرّك جيش الدولة شمال الجزيرة العربية؛ بقصد مباغتة المسلمين والقضاء على دولتهم في مهدها.
وكان هذا هو سبب أول غزوة من غزوات الفتوح الإسلامية الموجهة إلى دولة خارج جزيرة العرب:
غزوة تبوك (وتسمى أيضا: غزوة العسرة):
وتبوك: منطقة تقع في نصف الطريق بين المدينة ودمشق، وكانت غزوتها يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة؛ بلا خلاف.
قال أبو العباس أحمد بن علي المقريزي (المتوفى: 845هـ): “وسببها أنه بلغه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، أن الروم تجمّعت بالشام مع هرقل لقتاله“.
وهكذا؛ كرر زعماء فارس والروم ما فعله زعماء قريش؛ وجعلوا الدولة في مواجهة الدعوة، ووظّفوا السياسة لمحاربة الدين، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من تبليغ رسالة ربه.
ولا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخون عهد ربه، ويخل بالأمانة، ويتخلى عن مشعل الهداية الذي شرفه ربه بحمله لإضاءة طريق البشرية ..
وفي ضوء هذا الواقع نفهم حديث: حديث: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله“.
أي: أمرت أن أقاتل الناس الذين يقاتلونني ويريدون منعي من تبليغ رسالة ربي.
النموذج الحضاري في الفتوحات الإسلامية:
بغزوة تبوك دشّن النبي صلى الله عليه وسلم عهد الفتوحات الإسلامية التي قدمت نموذجا حضاريا في مقاصدها وفلسفتها ومبادئها وقيمها ..
وكانت ممارساتها أكثر الممارسات الدولية تمسكا بقيم العدل والرحمة والإنسانية؛ ولا مجال لمقارنتها بتوسعات دول أخرى؛ كالروم وفارس والمغول والصليبيين والنازيين والشيوعيين …
فالله تعالى نهى والنبي صلى الله عليه وسلم نهى نهيا صارما عن الوقوع في الظلم، ووجه إلى تفادي كل من لا يقاتل:
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]
قال ابن كثير في تفسيرها: “وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ الْمَنَاهِي مِنَ المُثُلة، والغُلُول، وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا رَأْيَ لَهُمْ وَلَا قِتَالَ فِيهِمْ، وَالرُّهْبَانِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، وَتَحْرِيقِ الْأَشْجَارِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ؛ كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُهُمْ“.
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدِروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ“. (صحيح مسلم).
وطبقت ذلك الدُّوَلُ الإسلامية بشكل كبير في عهد الخلافة الراشدة، وبشكل متفاوت طيلة التاريخ الإسلامي؛ ولم يثبت أن توسعها كان لفرض الدين على الناس، ولكن لفرض عدل الخالق في الأرض.
نظرية توسع الدولة:
ومما يجدر توضيحه هنا؛ أن توسع الدول القوية كان ولا يزال منطقا سائدا؛ وأن حجم الدولة الكبير ومساحتها الشاسعة مقياس هام لقوتها وأهميتها وقدرتها على المحافظة على وجودها وحكم الناس بقيم الخير والحق والعدل أو ما يقابلها من الشر والباطل والظلم ..
وقد ظهرت بهذا الخصوص نظريات فلسفية؛ منها: نظرية المفكر الفرنسي (جان جاك روسو) الذي رأى بأن عدم توسع الدولة يتسبب في خلق مشكلة في الدفاع عنها، ومشكلة العجز عن توفير متطلبات سكانها؛ مما يجعل الدولة تحت رحمة جيرانها، وأن الدولة لا ينبغي أن تكون صغيرة بحيث تحتاج لمن يدافع عنها ..
وفي عام 1896؛ ظهرت نظرية المفكر الألماني (فريدريك راتزل)؛ وخلاصتها أن الدولة مثل الكائن الحي الذي يولد وينمو ويكبر، وأن الأراضي التي تحتلها الدول لا تنمو إلا بنمو الثقافة والعلم والحضارة ..
فالمنطق مشترك؛ لذلك: مساءلة الدولة لا تصح أن تكون عن توسعها؛ بل عن المبادئ التي أطّرَتْ ذلك التوسع والأخلاق التي وجّهتْ ممارساته؛ وأن الدول التي ينبغي أن تساءل اليوم؛ هي تلك التي نقضت العهد الدولي؛ كأمريكا التي خرّبت الشرق الأوسط بذرائع كاذبة لتتوسع بالاستيلاء على موارده، وكإسرائيل التي وُلدت عام 1948 باحتلال فلسطين، وانتهجت السياسة العنصرية الإرهابية للنازية الألمانية، وتوسعت عام 1967 باحتلال أراضي لبنانية وسورية، ولا تزال تخرب المنطقة لتتوسع إلى حدود الشرق الأوسط الكبير ..
والمساءلة لا تصح دون عقد المقارنة –مثلا- بين توسع دولة الرومان قديما ودولة فرنسا حديثا في شمال إفريقيا، وبين الفتح الإسلامي لهذه المنطقة ..
فالعجب من كُتّاب محسوبين على النخبة المثقفة في العالم العربي؛ يسكتون عن هذا العدوان كله، وينتقدون الفتح الإسلامي الذي تدين له البشرية بتحريرها -إلى حد كبير- من إرهاب الدول الظالمة وتوسعها الذي أجرم في حق الإنسانية.
[1] إمتاع الأسماع (8/ 391) للمقريزي.
وسوم :التاريخ الإسلامي السيرة النبوية الغزوات الفتوحات الإسلامية
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI