تاريخ النشر : 24/08/2015
عدد المشاهدات : 2579
فتاوى المشاركة السياسية بين تحقيق المناط وتعطيل الدلالة
(لا تصوتوا ولا تتكلموا في السياسة حتى ينزل الوحي من السماء)!
بقلم: حماد القباج
من الظواهر التي تحزنني وتؤرقني حين أحاول فهمها واستجلاء أسبابها؛ ظاهرة بعض الشيوخ وطلبة العلم الذين يتبنون رأي اعتزال السياسة المعاصرة وما يتمخض عنها من: انتخابات وغيرها ..
وهو رأي لا يملك أحد فرض غيره عليهم ..
ولا يطلب ذلك؛ إلا في إطار ما رغب فيه ديننا من التحاور الشرعي والمذاكرة العلمية ورد المختلف فيه إلى الله ورسوله وإلى الذين {يستنبطونه منهم} ..
لكن المؤرق في الظاهرة المشار إليها؛ أن أولئك الشيوخ والطلبة؛ يرفضون مناقشة الموضوع أصلا، وكأن عندهم نصوصا أو إجماعا يفرض عليهم ذلك!
ويدعون إلى اعتزال الحياة السياسية وترك التدافع في مجالها، ويردون على من يخالفهم في ذلك الترك بشدة، ويرمونه بتهم ثقيلة؛ قد تصل إلى درجة التضليل والحكم بالزيغ ومخالفة السنة!!
وفي مقابل هذا التعصب غير المشروع لرأي الترك والاعتزال؛ نرى بعضهم يتمحلون في رد الحق بشكل سمج؛ حين يدَعون بأن فتاوى العلماء المشرعة للمشاركة؛ لم يتحقق مناطها وأنها خاصة ببلد أو بيئة، وأن ناقلها لا يراعي قانون التدليل، وأنه تزبب قبل أن يتحصرم ..
وبعد ادعاء هذه الادعاءات الكاذبة الظالمة؛ لا تراهم يبينون هذا المناط، ولا يبرهنون على تلك الخصوصية، ولا يردون على المثبت بعلم أو دليل أو مواجهة .. وإنما اللمز والهمز والكلام في المجالس الخاصة وما يشبهها من المنتديات!!
والعجيب أن الفاضل الذي أكتب هذه المقالة لتبيين خطئه وظلمه لأخيه؛ دعوته مرارا لنجلس سوية ونناقش ملاحظاته في جو من العلم والأدب والاحترام؛ يتضح منه تحقيق المناط من عدمه، وتوفر قانون الاستدلال أو عدم توفره ..
فيرفض وينفر ..، حتى إذا رآني كتبت أو قررت في الموضوع؛ جمع الذين يثقون به ليقول لهم بليل: لا تلتفتوا إلى تلك الفتاوى؛ فإن صاحبها لم يحقق مناطها ولم يحترم قانون الاستدلال بها!
أي أخلاق هذه؟
ومن المستفيد من هذا السلوك غير الشرعي؟؟
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق ..
ولكشف ما في هذا السلوك من تلبيس؛ أقول:
1 إنني لم أتكلم في هذا الموضوع مفتيا ولا متزببا؛ بل باحثا يتوخى الدليل الشرعي والفتاوى التي تؤكد دلالته وسلامة قانون الاستدلال به
وهنا أصحح للأخ خطأ؛ وهو أن قانون الاستدلال ورد بشأن الأدلة الشرعية، ولا أعرف دليلا على كونه ملزما في العمل بفتاوى العلماء ..
ولو كان ذلك لازما؛ لما صار للاستفتاء معنى؛ إذ سيصير المستفتي مطالبا بما يطالب به العالم والفقيه من استنباط الأحكام من النصوص وفق قانون الاستدلال ..
2 لقد تتبعت تلك الفتاوى واحدة واحدة؛ مستوثقا من ثبوتها وسياقها وملابساتها
وهو ما أعانني على (تنقيح المناط) بعد (تحقيقه) ..
3 بعد جمعها وتمحيصها؛ أخضعتها لقراءة تحليلية توضيحية منهجية، وعرضت تلك القراءة على علماء أجلاء؛ فأقروها وشهدوا بصحتها ..
(ومع ذلك من عنده استدراك على المنهجية أو تصحيح لخطأ فيها فليتفضل به بوضوح وصراحة، بعيدا عن الكواليس)!
4 الفتاوى موزعة على فقهاء الأقطار وعلماء الأمصار من موريتانيا إلى الكويت؛ مرورا ببلدنا المغرب، والجزائر وتونس وليبيا ومصر والكويت ..
وما حطتت عصا بحثي في بلد إلا وجدت فتوى المشاركة -تجويزا أو إيجابا- عالية الصوت، لا تكاد تسمع معها صوتا مخالفا ..
فلا مجال لادعاء الخصوصية ببلد أو بيئة أو شخصنة ..
5 ومع ذلك؛ لا يحتاج الموضوع إلى دراسة التاريخ والجغرافيا؛ فإن مناط تلك الفتاوى واحد: الترشح والانتخاب في ظل الانتخابات الديمقراطية ..
ولا تؤثر الفروق بين الدول في التنزيل؛ على توصيف ولا تكييف كما هو واضح وظاهر ..
6 أدلة تلك الفتاوى واضحة ومأخذها الشرعي جلي؛ وليست من خفيات المسائل التي يقع فيها تردد النظر[1]، ولذلك كادت تكون إجماعا.
وفي بحثي المتواضع لا أعرف عالما بحجم أولئك الفقهاء المجتهدين خالفهم؛ وأشهرهم: الشيخ مقبل رحمه الله.
وموقفه لا يرتضى؛ لأنه كان يرد القول بالمشاركة بقسوة شديدة ومنهجية غير شرعية؛ انظر مقالتي: “لماذا يخفي بعض الطلبة فتاوى المشاركة السياسية؟!“
7 ومع هذا الوضوح كله لم أعتمد دلالتها وأنشر دعوتها إلا بعد استشارة علماء معتبرين من علماءنا؛ في مقدمتهم: المشايخ وجاج والمغراوي وبوخبزة ورفوش والريسوني ..
فهل يوصف من اتبع هذه الخطوات العلمية وسلك هذه المنهجية الدقيقة؛ بأنه تزبب قبل أن يتحصرم، أو تعالم أو استعجل ..
وهل يصح أن يقال له:
“فهل يحق لك – أيها المتصدر (!!) – أن تتكلم في مثل ذلك ب ” مجرد التحليل “!! ، فراجع نفسك واحذر الفهم العليل ..
ف ” التكييف الأصولي ” الذي ماهيته : ( التحقق من المجانسة بين الأصل والواقعة ) ؟! من الأمور الدقيقة التي لا تنال بالهوينا (!) ، ولا يصلح أن يتسور سورها الرفيع من لم يبرع في ( الدرس الأصولي )!!.. ، و ( النظر المقاصدي )!! ..، وفق ( النهج الأثري )!!.
فالمائدة دسمة (!) لا تقبل المشاركة بالتطفل (!!) ..، ولا مجرد الوصف بالفضل ( ؟!) ..، والقصد التنبيه على ضرورة التأهل(؟!) .. لا القدح في أحد بعينه فإياك والمواجهة بالتعجل”اهـ الاقتباس
الذي أقول لصاحبه:
عجبا:
لا تترك في الطعن تجهيلا ولا تسفيها؛ ثم تنفي القدح عن نفثاتك!
وتتكلم عن معلوم معروف؛ وتنفي العينية؛ مع أنه لا يعرف في بلدك من قام بهذا البحث ونشره ودعا للعمل بمقتضاه؛ سوى عبد ربه، والباقون ينقلون، بين مستقل ومستكثر ..
أما أنا فلا أعرف في تحقيق مسائل العلم شيئا زائدا على تلك الخطوات، اللهم إلا العلم الذي يأتي به الوحي، أو الذي يؤخذ مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهذا لا سبيل لأحد إليه؛ فلماذا تكلفوننا ما لا نطيق؟!
وهل تريدون أن نقول للناس: لا تصوتوا ولا تتكلموا في السياسة حتى ينزل الوحي من السماء!
الظاهرة:
لقد أضحت معارضة بعض الدعاة الشديدة والعنيفة لمن يقول بالمشاركة؛ ظاهرة تستدعي التأمل والدراسة ..
وترجع في نظري إلى أحد أربعة عوامل[2]:
1 القصور العلمي:
وعدم القدرة على التحرير العلمي لهذه المسائل النوازلية؛ فيتخفى العاجز خلف عمومات لا يعجز طويلب علم عن تردادها، موهما طلبته أن المردود عليه خالفها وخرج عن مقتضاها!
2 الخلل المنهجي:
ويتمثل في:
3 اتباع الهوى وعدم التسليم بالحجة:
وهنا أذكر المسلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكبر بطر الحق وغمط الناس” [رواه مسلم]
بطره: رده
غمطهم: احتقارهم
ولا يليق بطالب العلم أن يرد حقا أجراه الله على لسان أخيه؛ ويوهم الناس أن ذلك الأخ منحرف عن المنهاج وطرائق أهل العلم!
4 أداء دور سياسي:
لقد ثبت لدي بقرائن قوية؛ أن بعض هؤلاء الدعاة مضغوط عليهم لينفروا الناس من التصويت على إخوانهم الإسلاميين ..
وهو ما يفسر ما تجده عند بعضهم من الاجتهاد في تطلب العثرات للإسلاميين السياسيين، والسكوت المريب عن منافسيهم من الملاحدة والعلمانيين!
وهي ورطة قبيحة تورط فيها بعض السلفيين الذين لم يستطيعوا أن يحافظوا على استقلاليتهم، وقدموا تنازلات غير شرعية باسم (مصلحة الدعوة)!
وإلا فالإنصاف والحكمة الشرعية تقتضي أن يردوا منكر عدو الدين بقوة أكبر من ردّهم لما يزعمونه من منكر إخوانهم المستضعفين المناضلين في مدافعة من لا نختلف في خطره على التدين ..
وسأكتب لا حقا بحول الله مقالة مفصلة في تناول الظاهرة.
وختاما أقول:
كيف يتخذ طالب العلم موقفا مآله تقوية من يحارب الدين، وإضعاف من يعظمه؟!!
كيف ينفر من التصويت على من يقول: “قطعيات الدين لا كلام فيها”.
مقويا بذلك من يجعل من برنامجه الحزبي: “مراجعة أحكام الإرث”؟!
ويروج لنفسه بعد ذلك بأنه: محقق المناط ومقاطع البلاط وفقيه النفس وصاحب التأني ..
ومخالفه: متزبب مستعجل محب للظهور مفتون بالسياسة ..
ويا ليته نصح أو حاور أو أشفق لحال من وصفه بتلك الأوصاف الظالمة الغاشمة ..
ملحوظة:
أعتذر للأخ وللقراء عن عجزي هذه المرة عن التعامل بالحلم؛ وأرجو أن يكون لي عذر في كوني قررت وكتبت ووضحت وأجبت عن الاعتراضات وطلبت الحوار ..
ومع ذلك يأبى بعض المخالفين إلا أساليب المكر والمخادعة التي تظهر الإسلاميين السياسيين ومن يدعمهم بمظهر الشيطان، وتوهم أنه حكم العلم عليهم وأنهم مبدلون خارجون عن المنهاج، بدل أن يجلس أصحابها مع إخوانهم للتناصح والتباحث ورفع ما أشكل وحل ما استشكل ..
وقد نبهت على هذا الظلم مرارا، ودعوت أصحابه لتقوى الله والتحاكم لشرع الله بمواجهة صريحة، بدل الهمز واللمز والنفث؛ فلا مجيب ولا مستعتب، والله يهدينا ويحسن أخلاقنا ويخلص نياتنا ..
[1] راجع القواعد الفقهية التي تتأسس عليها تلك الفتاوى في الفصل الأول من كتابي: الاستبصار.
[2] في هذا التحليل أتحدث عن الظاهرة، وليس عن الشخص الذي أناقشه، تأكيدا لمحبتي له وصيانة لسمعته، وإن عمل هو على اتهامي وظلمي وإصدار الأحكام القاسية في حقي ..
وسوم :عين على السياسة
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI