تاريخ النشر : 31/12/2016
عدد المشاهدات : 3361
بقلم: حمّاد القباج
وضّحتُ في مناسبات سابقة بأن (المدخلية) لا تطلق فقط على منهج من يتخذ الشيخ ربيعا المدخلي مرجعا؛ بقدر ما أنها تمثل توجها دعويا له قناعات غريبة أبرزها:
1 مقاطعة “العمل السياسي” واعتبار الاشتغال به انحرافا عن منهج السلف الصالح
2 الغلو في نقد الحركات والشخصيات الإسلامية التي تتبنى الاشتغال ب “العمل السياسي”
وفي هذا السياق هاجم ربيع المدخلي بشدة الجماعات التي تتبنى العمل السياسي؛ وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين؛ كما هاجم العلماء والدعاة الذين يدعون إلى المشاركة فيه؛ ومن أول من تعرض لهجومه من أولئك العلماء: العالم السوري الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله تعالى، والعالم الكويتي الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ..
والذي أود توضيحه في هذه المقالة؛ هو أن التيارات المدخلية تعمل -في إطار القناعتين المذكورتين- على ترسيخ قطيعة عميقة ومتواصلة مع وبين مختلف الجماعات والحركات الإسلامية؛ لا سيما تلك التي تعتبر العمل السياسي مجالا هاما من مجالات الإصلاح ..
وفي هذا الصدد؛ يذهب ربيع المدخلي إلى حد اعتبار الجماعات الإسلامية من الفرق النارية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الفرق المشهور!
سئل الشيخ ربيع السؤال التالي:
أسألك عن ظاهرة كثرة الجماعات القائمة بالدعوة إلى الله، هل هذه ظاهرة صحية أم مرضية؟
فأجاب قائلا:
(هذه فرق ضالة ومصيرها إلى النار كما توعدها الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن تحدث لهم توبة ينجون بها من النار أو تدرك بعضهم رحمة الله لعذر من الأعذار) اهـ[1].
ومن آخر نماذج وتجليات هذا التصور الخطير والتوجه المدخلي الراديكالي؛ ما تابعته من موقف بعض مداخلة المغرب بمناسبة مرور 20 سنة على تأسيس حركة التوحيد والإصلاح المغربية ..
ففي الوقت الذي توجه فيه -بهذه المناسبة- عدد من المهتمين بمجالي الدعوة والإصلاح؛ نحو تقديم تقييم موضوعي ونقد بناء ونصح أخوي إلى الإخوة والأخوات في الحركة؛ أغلق المداخلة باب النصح والنقد الإصلاحي والحوار التكاملي، وآثروا بدل ذلك نصب مدفعية الطعن المتحامل والتنفير والتنقيص والتحقير بعبارات شديدة وفي إطار أحكام مسبقة قاسية ..
ولتسليط الضوء على هذا الموقف المتطرف، وبيان مخالفته للكتاب والسنة ومنهج السلف؛ سأنطلق من فرضية ثبوت ما نسب إلى الحركة من تهم ثقيلة؛ من قبيل: (معاداة السنن)، و(الاستهانة بالتوحيد)، و(التزهيد في طلب العلم)، و(الافتتان بالسلطة وحب الكراسي) .. إلـخ.
فأقول:
لو كانت هذه التهم ثابتة -وهيهات-؛ ألم يكن الموقف الشرعي يستلزم:
1 السعي الحثيث والعمل الدؤوب لإصلاح ذلك الفساد وتقويم ذلك الاعوجاج
2 القيام بذلك في إطار الأخوة والمرحمة والمحبة في الله
3 التعاون على الخير مع دوام النصح بالحكمة والموعظة الحسنة
أليس هذا ما يمليه علينا ديننا تجاه أناس يحملون هَمّ الإصلاح الدعوة إلى الله؟
أليس هو الكفيل بإصلاح الأحوال وتقويم الاعوجاج ولو بقدر يسير؟
أليس إشعال شمعة خير من لعن الظلام؟؟
أليس التواصل مع الحركة من أجل تخفيف تلك الشرور المزعومة أولى من مقاطعتها بشكل مطلق؟
كيف نستطيع فهم هذا الحجم من القطيعة: رفض التواصل، رفض الحوار، رفض التعاون؟؟
(إلى ساعتي هذه لم أرصد أي عمل مشترك بين الجمعيات والتيارات المتأثرة بالمنهج المدخلي وجمعيات وحركات إسلامية أخرى)!
لقد شرع الله تعالى لنا: التواصل مع جميع الناس في سبيل التعاون معهم على الخير، ولو اختلفنا معهم في الدين والملة:
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]
وهذه الآية تتحدث عن التعاون على الخير مع غير المسلمين كما هو معروف من سياق نزولها؛ قال الطاهر بن عاشور في تفسيرها:
“يَعْنِي: أَنَّ وَاجِبَكُمْ أَنْ تَتَعَاوَنُوا بَيْنَكُمْ عَلَى فِعْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا وَاجِبُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُعِينُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، لِأَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَيْهَا يُكْسِبُ مَحَبَّةَ تَحْصِيلِهَا، فَيَصِيرُ تَحْصِيلُهَا رَغْبَةً لَهُمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعِينُوا عَلَيْهَا كُلَّ سَاعٍ إِلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عَدُوًّا ..
فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا يُعَاوَنُونَ عَلَى مَا هُوَ بِرٌّ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ يَهْدِي لِلتَّقْوَى، فَلَعَلَّ تَكَرُّرَ فِعْلِهِ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ”. [التحرير والتنوير (6/ 87)].
هذا هو السلوك الواجب علينا مع من يخالفوننا في أصل الدين؛ فكيف بمن يجمعنا معهم دين واحد، وقبلة واحدة، وحب الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وحمل همّ الدعوة إلى الله، وتبني مرجعية الكتاب والسنة؟؟
أليست هذه أرضية صالحة للسعي نحو تواصل وثيق وتعاون دقيق؟؟
لقد بلغت راديكالية بعض التيارات المدخلية عندنا في المغرب؛ إلى درجة اعتبار من يؤدي هذا الواجب ويعمل بهذا التوجيه (إخوانيا غير جلده وارتمى في أحضان الإخوانية)!
وهو (متلون)؛ مرة يتلون بلون السلفية وأخرى يتلون بلون (الإخوانية)!
وهنا لا بد أن نتساءل:
من يعمل على إذكاء نار المقاطعة بين التيارات والجماعات والحركات الإسلامية؟
من يقف وراء النفخ في تلك النار لإحراق ما أوجبه الله تعالى من التواصل والتعاون والتحاور؟؟
الذي يقف وراء ذلك؛ هو من له مصلحة في ذلك؛ وهذا يجعلنا ندرك بأننا أمام موقف سياسي يحاول بعض المداخلة تغليفه بستائر دينية تحت مسميات: (الولاء والبراء)، و(صفاء المنهج)! و(الغيرة على السنة)! و(الرد على المخالف من الأصول)!!
إلى آخر هذه التوظيفات والمغالطات الفوضوية التي تطفح غلوا وحقدا وتطرفا، والتي تجعل من الأصل استثناء ومن الاستثناء أصلا؛ وهكذا وبدل أن تكون العلاقة بين الحركات والتيارات الإسلامية قائمة على التعاون والتكامل مع التناصح؛ تصير قائمة على التهاجر والتدابر مع التنازع والتناطح ..
وهذا من أهم أسباب الفشل وذهاب القوة كما قال ربنا: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]
إن الذي يقف وراء تلك القطيعة هو من يريد ترسيخ الفشل وإضعاف العاملين في مجال الدعوة والإصلاح؛ وإلا لو كان هم دعاة التهاجر والتدابر هو تقويم الاعوجاج وعلاج الاختلالات ومقاومة المخالفات؛ لكانت النصيحة الأخوية كافية وكفيلة بتحقيق ذلك على أحسن الوجوه الممكنة ..
وَمِمَّا يؤكد أن ذلك الموقف المدخلي موقف مسَيَّسٌ أن أصحابه يرفضون رفضا باتا الجلوس للتحاور بشأنه؛ وكأنه موقف مقدس نزل به نص قطعي لا يحتمل أي تأويل غير تعميق القطيعة والتدابر والتطاحن!
وأنا شخصيا قمت بمحاولات عديدة واتخذت مبادرات متعددة من أجل فتح حوار مع أشخاص ممن يتخذون ذلك الموقف؛ وفي كل مرة كنت أجد أمامي رفضا قاطعا يتواصون به بشكل يجعل الحليم حيرانا؛ ويدفعه نحو الاقتناع بأنهم يؤدون –من حيث يشعرون أو لا- دورا سياسيا يغلفونه بمسميات دعوية ودينية ..
وفي مقابل هذا الرفض الصارم للحوار ولقاءات التناصح؛ لاحظت فيهم حرصا شديدا على الهجوم العنيف على من يؤمن بواجب التواصل والتعاون مع الحركات الإسلامية ومحاولة تشويه صورته واتهامه بتغيير قناعاته[2] ..
وهذا الموقف الراديكالي يمثل سلوكا راسخا في منهجية الشيخ ربيع المدخلي؛ وكتبه وأشرطته تطفح بالتأصيل له لجعله مقدمة يبني عليها مقصد الطعن والإسقاط؛ فهو:
1 يدعي أنه على السلفية الحقة وأن منهجه هو منهج السلف الصالح
2 يتهم كل من خالف ذلك المنهج؛ بأنه ترك السلفية وتلوّن وغير جلدته وارتمى في أحضان المبتدعة و(الحركيين)
ويتبعه على هذه المنهجية غلاة كثيرون حدو القدة بالقدة؛ حتى أنهم يستعملون المصطلحات نفسها التي وضعها هو؛ مثل: (متلون) (حزبي) (حركي) (مفتون بالسياسة) (إخواني) (إخونجي) .. إلـخ.
ويشمل القاموس (المدخلي) ألفاظا وعبارات أكثر غلوا وتطرفا؛ من قبيل: (فلان أخطر على الأمة من اليهود والنصارى)، و(أكبر المنحرفين)، و(أكبر محارب لدور القرآن) ..
وهذا هو حال (المدخلية المغربية) التي لم تستطع أن تتخلص من المنهج (المدخلي) مع أنها تعرضت هي بدورها لهجوم عنيف من الشيخ ربيع جعلها تتخذ بعض المواقف المعادية له وتصدر كتبا ومقالات في الرد عليه، بعد أن كانت تبدي إعجابها به وبمنهجه وتنشر كتبه وأشرطته وتصفه ب: (أسد السنة وقامع البدعة)!
لكن تلك المواقف بقيت ردود أفعال انتقامية؛ لم يتمكن أصحابها من تطويرها إلى سلوك راسخ يخرج بصاحبه من ضيق (المدخلية) إلى سعة السلفية، ومن ظلم الغلو إلى عدل الاعتدال، ومن “تطرف” معاداة الحركات الإسلامية ومقاطعتها ومحاربتها إلى “وسطية” التعاون معها في ظل التواصي بالحق والتواصي بالمرحمة ..
مقالات ذات صلة:
[1] من شريط مسجل له تحت عنوان: الاعتصام بالكتاب والسنة.
[2] تغيير القناعة قد يكون واجبا حين تكون تلك القناعة خاطئة، ومن آفات المداخلة أنهم يعتقدون أن قناعاتهم حق مطلق لا يقبل المراجعة؛ لدرجة أنهم يفسرون كل تغيير ومخالفة لما يعتقدونه حقا؛ يفسرونه بالضلال والانحراف عن الحق، ويصفون صاحبه بأنه تلون وغير جلدته وأنكر ما كان يعرف؛ وهذا خلل تصوري وأخلاقي يورث صاحبه كبرا واستعلاء ويصده عن إدراك أخطاءه وتصحيحها ..
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI