تاريخ النشر : 22/03/2015
عدد المشاهدات : 1704
(الوهابية) بين السياسي والموضوعي:
اختلط في الكلام على ما يسمى بالوهابية؛ العلمي والديني بالسياسي، وقد كان العامل السياسي سببا في توسيع دائرة الخلاف العلمي المتعلق بحقيقة هذا التوجه، ونسبته من الإسلام، ثم ما يترتب على ذلك من المواقف تأييدا ومعارضة.
ولقد كان الاطلاع على كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن نحا منحاه من العلماء كافيا للحكم على منهجه تصويبا أو تخطئة، هداية أو ضلالا، إلا أن هذا المسلك المنطقي غيب في خضم الزخم الدعائي السياسي الذي أحاط بالقضية، فتكرس بسبب ذلك التوجه الذي يطعن في منهج ابن عبد الوهاب، وعملت الآلة السياسية على نشر هذا التوجه بعيدا عن الإنصاف والموضوعية.
وتوج هذا الموقف بما أوصى به مركز الدراسات الأمريكي (راند) في تقرير (2007) من ضرورة مواجهة الساسة للتيار الوهابي بصفته تيارا متشددا في الدين ينتج فكرا إرهابيا، وقد عملت جهات عديدة في البلدان الإسلامية -ومنها المغرب- على تجسيد تلك التوصيات على أرض الواقع بإيعاز وتوجيه من الخارجية الأمريكية.
وإذا علمنا أن ثمة دارسون وباحثون -متجردون من الخضوع للتيارات السياسية- قد نصوا على أن الوهابية ليست مذهبا محدثا بقدر ما أنها حركة إصلاحية سلفية تهدف إلى الرجوع بالدين إلى أصوله الصحيحة وتطبيقاته المثالية، كما هو صريح قول المستشرق الإسباني (أرمانو): “إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق، فالوهابيون قوم يريدون الرجوع بالإسلام إلى عصر صحابة محمد”.
وجاء في دائرة المعارف البريطانية: “الحركة الوهابية([1]) اسم لحركة التطهير في الإسلام، والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده، و يهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح“.
إذا علمنا ذلك ظهر لنا أن الصراع مع الوهابية هو في حقيقته حرب على الإسلام الصحيح من أجل التمكين لإسلام مشوه لا يبعث للأمة عزة ولا يحقق لها مجدا، وأن المسلمين الذين يحاربون السلفية (وقد يسمونها وهابية) إنما يحاربون دينهم الحق من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وفي هذه المقالة أبرز استكشاف أحد أبرز علماء المالكية وفقهائهم –العلامة ابن عزوز- لما يسمى بالمذهب الوهابي.
ورحلة استكشافه هذه؛ تمثل وثيقة موضوعية لمن أراد أن يحكم على هذا التوجه بعدل وإنصاف.
من هو العلامة ابن عزوز؟
ترجم له الكتاني في فهرس الفهارس رقم (490)، ومحمد بن مخلوف في شجرة النور الزكية رقم (1683)، والزركلي في الأعلام (7/109)، ومحمد رشيد الجزائري في مقدمته لكتاب عقيدة التوحيد، وغيرهم.
ومجمل ما ذكروه في التعريف به؛ أنه:
الإمام العلامة المحدث المقرئ الفلكي الفرضي المسند الشيخ أبو عبد الله محمد المكي بن مصطفى بن عزوز الحسني الإدريسي التونسي مولدا القسطنطيني هجرة ومدفنا.
ولد سنة (1270هـ) بنفطة التونسية، اعتنى به والده وأحسن تربيته، وقد أخذ عن عدد كبير من الشيوخ تجاوز عددهم 65 فيما ذكره الكتاني، “وهذه الكثرة نادرة عن المتأخرين”.
منهم: أحمد السنوسي كبير مفاتي قفصة، وشيخ الإسلام حميدة بن الخوجة التونسي، ومسند الجزائر علي بن أحمد، ومحمد بن جعفر الكتاني ووالده جعفر بن إدريس، وعبد الجليل برادة، وعالم مراكش محمد بن إبراهيم السباعي.
وكفاه بالزيتونة قلعة المالكية، ومنها نهل.
تصدر للتدريس ببلده، وولي الإفتاء عام (1297هـ)، وهو ابن (26) سنة، ثم ولي القضاء بها أيضا.
ثم رحل إلى الآستانة سنة (1313) وتولى تدريس الحديث في دار الفنون واستمر إلى أن توفي بها.
قال الكتاني: “هذا الرجل كان مسند أفريقية ونادرتها، لم نر ولم نسمع فيها بأكثر اعتناء منه بالرواية والإسناد والإتقان والمعرفة ومزيد تبحر في بقية العلوم والاطلاع على الخبايا والغرائب من الفنون والكتب والرحلة الواسعة وكثرة الشيوخ، إلى طيب منبت وكريم أرومة…، ومن المطلعين على الأفكار العصرية”.
وقال فيه العلامة عبد الحفيظ القاري:
مــن نرتجي للديـن يكشـف غـمـة عمت على الإسـلام بالإغماء
غيـــر ابـن عـزوز إماما للهــدى بالحـق يفتــي لا بأخـذ رشاء
من مغرب في مشرق يبدي السنا فــي المطلعين له ضيا كذكاء
إن كـان فيـنا قـائم فهــو الـــــذي بالعلـم يرقى ذروة الجــوزاء
له مؤلفات ناهزت التسعين؛ منها: (مغانم السعادة في أن العلم أفضل أنواع العبادة) و(المبرة في أن القبض في الصلاة هو مذهب إمام دار الهجرة) و(القويم القيم في حال ابن تيمية وابن القيم) و(فتح الخلاق في استكمال الإسلام لمحاسن الأخلاق) و(طريق الجنة في تحلية المؤمنات بالفقه والسنة) و(صادق النبا في عقوبة صاحب الربا) و(رفع النزاع في بيان معنى التقليد ومعنى الاتباع) و(نظم الجغرافية التي لا تتحول بمغالبة الدول)، و(التنزيه عن التعطيل والتشبيه) ..
توفي العلامة ابن عزوز يوم الخميس ثاني شهر صفر عام (1334هـ) في إسطنبول، رحمه الله.
وقد رثاه غير واحد؛ منهم شيخ الأزهر العلامة محمد الخضر حسين بقصيدة مطلعها:
رب شمس طلعت في مغرب وتوارى في ثرى الشرق سناها
المخاض:
عاش العلامة محمد المكي بن عزوز -وخاصة بعد رحلته إلى الأستانة- مخاضا فكريا عسيرا نظرا للاختلاف الكبير بين المحصلة العلمية والفكرية التي حصلها في بلاد المغرب، وبين منهج المدرسة السلفية في بلاد المشرق؛ فكما هو معلوم أن مذهب الإمام مالك بن أنس هو السائد في بلاد المغرب عامة، وكان تقليده مستحكما عند العلماء والعامة في القرون الماضية، والكلام عن غيره من المذاهب أو قراءة مصنفاتها يعد من المحظورات! بل هدد أحد الأمراء بالأندلس بقتل من يفتي بغير مذهب مالك!!!
كما كانت العقيدة الكلامية المنسوبة خطأ للإمام الأشعري هي السائدة، مع تفشي التصوف الذي اكتسح المغرب منذ استولى ابن تومرت على الحكم.
في هذه البيئة كانت النشأة العلمية والروحية للعلامة محمد المكي رحمه الله فقد أخذ علومه عن جهابذة المذهب المالكي في عصره، ، وكان أبوه الشيخ مصطفى بن عزوز رحمه الله صاحب طريق صوفية تعرف بالطريقة العزوزية، ولا شك أن هذه الحال قد أثرت في المنهج العلمي والروحي للعلامة ابن عزوز؛ حيث يقول هو عن نفسه[2] واصفا تأثير النشأة في المنهج: “فأنا قد ربيت في معهد العلم من صغري، وقد وسع الله علينا من رزقه، ما سهل به القراءة زمان التعليم والإقراء على شيوخ عديدة على اختلاف مشاربهم وتفاوت درجاتهم تفننا وأخلاقا، وارتحلت إلى بلدان عديدة، .. وأيضا لا نعرف في بلادنا المغربية إلا التقليد الأعمى؛ فقد كنا نعد الفتوى بحديث البخاري ومسلم ضلالا، وكما شدد علينا شيوخنا في ذلك، شددنا على تلاميذنا هناك..؛ فمن ذلك أني عند سفري إلى المشرق استعار مني ابن أختي الخضر بن الحسين “نيل الأوطار” للشوكاني، فما تركته حتى أقسم لي بالله أنه لا يتبعه فيما يقول، ومن ذلك أني وجدت في عام (1300) كتاب “الروضة الندية” للسيد صديق حسن خان يباع عند كتبي في مسكرة[3]، فنهرته وجزرته، وقلت له: حرام عليك تبيع “الروضة الندية”، فصار يعتذر بمسكنة كأنه فعل خيانة، أما تصانيف “ابن تيمية” و”ابن القيم” فو الله ما نظرت فيها سطرا لنفرة قلوبنا منها، ومن جهل شيئا عاداه ..”.
ومعلوم أن هذا المنهج لا يرضاه لنفسه العالم النزيه المتبحر كالشيخ محمد المكي رحمه الله، ولذلك خاض غمار البحث والتفتيش عن حقيقة الوهابية (أو السلفية)، متحليا بالإنصاف والموضوعية، متجردا من الهوى والمصلحية، وهو ما سنعرض له في الحلقة الثانية إن شاء الله ..
([1]) الوهابية هو اللقب الذي أطلق على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في القرن الثامن عشر؛ فنسبت دعوته إلى شخصه بدل أن تنسب إلى حقيقتها، والغرض ظاهر؛ وهو عدها مذهبا محدثا ابتدعه الشيخ، الذي لم يزد –في الحقيقة- على تجديد الدين والدعوة إلى الإسلام المصفى كما شهد بذلك المستشرقون المذكورون.
[2] في رسالة طويلة أرسلها إلى الداعية الكويتي وأحد رواد النهضة في الجزيرة الشيخ عبد العزيز الرشيد البداح، نشرها هذا الأخير بنصها في مجلة الكويت التي كان ينشرها.
وهذه الرسالة هي إحدى الرسائل التي أعلن فيها العلامة ابن عزوز عن منهجه الجديد في الفكر والعقيدة والفقه.
[3] مسكرة هي ولاية تقع غرب العاصمة الجزائرية، وتعرف الآن ب “معسكر”.
مواد ذات صلة
