تاريخ النشر : 18/01/2015
عدد المشاهدات : 1798
بقلم: حماد القباج
تخطو الأمم الغربية خطوة أخرى في الاتجاه الخطأ؛ حين يعلو فيها صوت يحترم حرية التعبير إلى درجة التقديس، ولا يهتم باحترام رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام.
واقع سيء يسعى لترسيخه فئام من البشر؛ من خلال مخطط إفسادي شاهدنا حلقة جديدة من حلقاته في شهر يناير / كانون الثاني من هذا العام (2015)؛ حين أقدم صحافيون غربيون على تكرار جريمة نشر صور تتطاول على المقام العلي والمحل السني؛ مقام سيد الأنبياء وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم:
كناطح صخرة يوما ليفلقها … فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
المسيرة المشبوهة:
وقد اقترفوا هذه الجريمة البشعة بمباركة قادة سياسيين ومثقفين، قاد بعضهم مسيرة باريس المليونية المنددة بالإرهاب!
مسيرة صفق لها علمانيون عرب لم نسمع لهم صوتا في إنكار إرهاب اليهود في غزة وجرائم الانقلابيين في مصر ..
كما شارك فيها مسلمون رأوا أنهم مضطرين لدفع تهمة الإرهاب عن أنفسهم، مع أن بعض قادة المسيرة المذكورة هم أحوج لدفع تهمة الإرهاب التي تلاحقهم ولن يجدوا منها مهربا.
مسيرة قدست حرية تعبير زمرة من العنصريين المتطرفين، ولم تكترث لحرية ملايين المؤمنين الذين يتأذون بالتطاول على نبيهم صلى الله عليه وسلم!
مؤمنون يحبون هذا الرسول أكثر من حبهم لأولادهم وأنفسهم، ويدركون أن حاجتهم إلى رسالته أكبر من حاجتهم للطعام والشراب ..
مؤمنون يعرفون أن في إنسانيتهم جانبا روحيا لا يمكن إشباعه بشكل صحيح وكافي إلا باتباع ما بينته الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وسر ذلك أن الإنسان صنعة إلهية، والصانع أدرى بصنعته؛ فأقرب الطرق لمعرفة ما به صلاح الروح الإنسانية وزكاتها، وما يتبع ذلك من صلاح السلوك الإنساني؛ هي طريقة: اتباع منهاج الله سبحانه.
والرسل هم الوسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ ذلك المنهاج.
أما ما يصلح الأبدان من غذاء ودواء وطب وغير ذلك؛ فربط الخالق معرفته؛ بالتجارب الإنسانية، وإعمال العقل البشري للتفكر في وسائل تسخير خيرات الكون لمنفعة الإنسان:
قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم“[1].
فهذا هو سر فلاح البشرية: اتباع الرسل وشرائعهم لإصلاح الفرد وما يتبعه من صلاح المجتمع والدولة، وإعمال العقل لاستنباط منافع الكون وتسخيرها لخدمة مطالب الأبدان.
ومشكلة الحضارة الغربية اليوم؛ أنها قامت على أساس الإلحاد والإعراض عن النبوة والزهد في توجيهات الرسل عليهم السلام؛ فترتب على ذلك: أزمة حادة في الجانب الروحي، يحاول الإنسان الكافر التخفيف منها؛ بالملهيات الضارة؛ كالخمر والمخدرات والشذوذ الجنسي، وبمحاولة تسكين النداء النفسي الملح بفعل الخير والإحسان إلى الخلق ..
ومع ذلك؛ فالأزمة في تفاقم؛ وعدد الناس الذين يختارون وضع حد لحياتهم في تزايد؛ بسبب غلبة الشعور بالضنك والتعاسة مع توفر المال والشهوات.
حاجة البشرية إلى النبوة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذلك؛ وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال؛ فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده.
وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة} وقال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: “إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب“[2].
وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل؛ فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبعثه رحمة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بأداء حقوقه، وسد إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه”. [مجموع الفتاوى (19/ 101)]
أصول مقاصد الرسالة:
فالله تعالى جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه وبيان حالهم بعد الوصول إليه.
فالأصل الأول: يتضمن إثبات صفات الله والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده والأمثال التي ضربها لهم.
والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب.
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها.
ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة؛ كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه.
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها؛ مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا؛ فلا فلاح إلا باتباع الرسول؛ فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره كما قال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} أي: لا مفلح إلا هم؛ .. فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول الرسالة وجودا وعدما.
وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء وبعث به جميع الرسل؛ ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم وكذلك من خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات ..
والشقاء النفسي والشعور بالضنك؛ عقوبة لا تقل خطورة عن ذلك كله ..
وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاؤوا به واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم؛ كما قال تعالى: {إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} {ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون} وقال تعالى: {ثم دمرنا الآخرين} {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} أي: تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل ثم قال: {أفلا تعقلون} وقال تعالى في مدائن قوم لوط: {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} {وإنها لبسبيل مقيم} يعني: مدائنهم بطريق مقيم يراها المار بها.
وقال تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}.
وهذا كثير في الكتاب العزيز: يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أتباع المرسلين؛ ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم ثم يختم القصة بقوله: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.
فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة {وهو العزيز الرحيم} فانتقم من أعدائه بعزته وأنجى رسله وأتباعهم برحمته[3].
الرسالة روح العالم:
وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية أيضا:
“الرسالة روح العالم ونوره وحياته؛ فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟
والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات؛ قال الله تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.
فهذا وصف المؤمن: كان ميتا في ظلمة الجهل؛ فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.
وسمى الله تعالى رسالته روحا، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة؛ قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}؛ فذكر هنا الأصلين وهما: الروح والنور؛ فالروح الحياة والنور النور. وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار التي يحصل بها النور؛ وهذا كما في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}.
فشبه العلم بالماء المنزل من السماء؛ لأن به حياة القلوب؛ كما أن بالماء حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية لأنها محل العلم؛ كما أن الأودية محل الماء”اهـ. [مجموع الفتاوى (19/ 93)].
إن تجاهل النبوة ورسالة الأنبياء؛ من أكبر مداخل الانحراف في السلوك الإنساني الذي ترسخه الحضارة الغربية اليوم؛ وهذا التجاهل هو امتداد لموقف الفلاسفة المشاءين (أتباع أرسطو) الذين وصفهم ابن تيمية بأنهم “من أكفر الناس بما جاءت به الرسل؛ إما أنهم لا يطلبون معرفة أخبارهم، وما سمعوه: حرّفوه، أو حملوه على أصولهم.
وكثيرٌ من المتفلسفة هم من هؤلاء.
ولهذا من لم يكن عارفاً بالأنبياء من فلاسفة اليونان والهند وغيرهم، لم يكن له فيهم كلام يُعرف، كما لم يُعرف لأرسطو، وأتباعه فيهم كلام يُعرف”[4].
والخلاصة أن إيمان الإنسان بالنبوة هو أصل النجاة والسعادة؛ ومن لم يحقق هذا الإيمان اضطرب عليه باب الهدى والضلال، ولم يهتد للجواب الصحيح عن الأسئلة الملحة عن حقيقة الوجود الإنساني.
فالعلم الحقّ هو ما أخبر به الرسل عليهم السلام، والإرادة النافعة إرادة ما أمروا به؛ وذلك عبادة الله وحده لا شريك له؛ فهذا هو السعادة، وهو الذي اتفقت عليه الأنبياء كلّهم؛ فكلّهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذلك إنّما يكون بتصديق رسله وطاعتهم.
فلهذا كانت السعادة متضمّنة لهذين الأصلين: الإسلام، والإيمان؛ عبادة الله وحده، وتصديق رسله؛ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله:
قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِيْنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِيْنَ}؛ قال أبو العالية: هما خصلتان يُسأل عنهما كلّ أحد؛ يُقال: من كنتَ تعبد، وبماذا أجبتَ المرسلين؟[5].
حرية التعبير في الإسلام:
وظيفة التعبير والبيان من أعظم الخصائص والمواهب الفطرية التي ميز الله بها الجنس البشري، وجعلها في تكوينه من أول أمره؛ فهي تشكل جزءا من هوية الإنسان وماهيته، وهذا يدل على الأهمية البالغة التي تكتسيها هذه الوظيفة في حياة الإنسان وفي حياة الجماعة البشرية ..
والباحث عن موقع حرية التعبير في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ يندهش لحجم المساحة التي تحتلها في منظومة القيم الإسلامية:
فالقرآن الكريم ذكر أقوالا وتعبيرات من جميع الأصناف؛ من أقوال إبليس إلى أقوال فرعون؛ كقوله: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين}[القصص: 38].
إلى الأقوال المقيتة لبعض سفهاء بني إسرائيل؛ كقولهم: {إن الله فقير ونحن أغنياء}[آل عمران: 181].
إلى أقوال المعاصرين للرسالة المحمدية من مشركين ومنافقين وغيرهم، وهي كثيرة.
كما أن السيرة النبوية مليئة بالأقوال والتعبيرات التي صدرت بالحق أو بالباطل، على مواقف وتدابير ارتآها أو أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها أحيانا يتسم بالخشونة وقلة الأدب، ولم يكن عليه السلام يواجهها إلا بالرفق والصفح وسعة الصدر، وتصحيح الخطأ وتقويم الاعوجاج، كما هي طريقة القرآن في الأقوال الخاطئة التي ينقلها ..
والأمثلة على ذلك كثيرة جدا؛ منها:
ما جرى في اتفاقية الحديبية؛ حيث عارض عمر وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهم، هذه الاتفاقية معارضة شديدة ..
وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم معبرا عن معارضته، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست برسول الله؟ قال: “بلى“، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: “بلى“، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: “بلى“، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
قال: “إني رسول الله، ولست أعصيه” وفي رواية: “أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني“.
قال عمر: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
قال: “بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟” قال: لا.
قال: “فإنك آتيه ومطوف به“.
ومع ذلك؛ بقي عمر معارضا، وعبر عن ذلك لأبي بكر رضي الله عنه ..
فهذا الحدث وغيره؛ يبين أن حرية التعبير عن الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي، وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقدا لموقف حاكم من الحكام، أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان، دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر[6].
ويؤكد العلامة ابن عاشور أن صفة الحرية كلها، وضمنها حرية القول؛ هي صفة فطرية وضرورية لكل تقدم بشري؛ قال رحمه الله:
“إن الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية، من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق، فلا يحق أن تسأم بقيد إلا قيدا يدفع به عن صاحبها ضر ثابت، أو يجلب به نفع”اهـ.
قال ابن عاشور[7]:
“إذا تبينتَ ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تبيُّن الحكيم البصير؛ علمت أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في الشريعة، جامعة بين أنواع المصالح بحيث قد بلغ بها حدا لو اجتازته لجر اجتيازها إياه إلى اختلال نظام المدنية بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلال قويا أو قليلا، وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها، وامتشاق السيوف؛ لتمزيق إهابها.
ومن القواعد المقررة في الحكمة: أن “لا عبرة بوجود يفضي إثباته إلى نفيه”.
ومن القواعد في أصول التشريع الإسلامي: أن “المناسبة التشريعية لا تعتبر مناسبة إلا إذا كانت غير عائدة على أصلها بالإبطال”؛ وأنها “تتخرم إذا لزمها مفسدة راجحة أو مساوية”.
وبقول راجح أقول: إن ما يتجاوز الحدود التي حدد الشرع بها امتداد الحرية في الإسلام؛ لا يخلو عن أن يكون سبب فوضى، وخلع للوازع بين الأمة، أو موجب وهن ووقوع في إشراك غفلة ومهاوي خطل سياسي، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تحليل وتطويل لا يعوز صاحب الرأي الأصيل”اهـ.
حدود حرية التعبير:
لا يُعرف عالم ولا مفكر ولا فيلسوف، ولا تجمع بشري، مهما بلغ تطوره الفكري؛ يبيح حرية التعبير بدون ضابط ولا قيد.
بل جميع النظم السياسية تفرض على حرية التعبير؛ قيودا وضوابط كي لا تنقلب فوائدها إلى مضار ومصالحها إلى مفاسد ..
وإذا كان الباري تعالى قد كرم الإنسان بإعطائه حريته، وأمر بصيانة حرمته، وعدم الإخلال بها، فإنه في الوقت نفسه؛ جعل هذا الإنسان في وسط مجتمع، دعاه إلى احترامه والتعاون معه، وعدم الإساءة إليه، فيجب أن لا تصطدم حرية الإنسان، بمصالح المجتمع، ويجب أن لا تسيء حرية الفرد، لقيم ومقدسات المجتمع، لأنه إذا ما تعارضت حرية أفراد المجتمع مع بعضها بعضا، فإن الخلل يدب إلى المجتمع كله، فتضيع حقوق الفرد والمجتمع جميعا.
ومن هنا كان لا بد من وضع قواعد، توضح معنى حرية الفرد، حتى لا تصطدم مع مصالح مجتمعه، وحتى يكون التعاون وثيقا بين أفراد المجتمع، فلا يتعدى فريق على فريق، ولا يضر فرد بمجموع، ولا مجموع بفرد.
إن تشبث مجتمعاتنا الإسلامية بقيمها الدينية، وحرصها على الالتزام بها، والسير في حياتها وفق مراميها، تفرض على الآخرين أن يحترموها، وأن لا يعرضوها للهوان، بدعوى حريتهم الشخصية.
إن حرية التعبير شيء محترم ومضمون، ولكن لا ينبغي ولا يقبل أن تنتهك معه حريات الآخرين، فعملك لحريتك الفردية باعتبارها قيمة إنسانية أعطاها الله لك، يقتضي منك أن لا تسيء للآخرين في تمتعهم بما يريدونه في حياتهم، وبما أنك فرد من مجموع، فلا بد من أن تعترف بحقوق ذلك المجموع، ولا بد من أن تحترمها، ولا يسوغ لك أن تتعدى عليها.
وها هي فرنسا نفسها التي جعلت من الحرية مبدأ راسخا وقيمة إنسانية سامية؛ تفرض على حرية التعبير قيودا صارمة؛ لا سيما حين يرتبط الأمر بالطعن في اليهود!
وبعد حدث مقتل صحافيي (شارلي)؛ اتخذت فرنسا قرارا بعزل السجناء الذين وصفتهم بالجهاديين، كي لا يؤثروا على غيرهم بآرائهم؛ فلماذا تتخذ هذا الإجراء الذي يحد من حرية الرأي والتعبير؟!
كما أمر وزير الداخلية مباشرة بعد مسيرة باريز؛ بسجن أحد الكوميديين الفرنسيين الذي اشتهر باستعراضاته الساخرة باليهود!
فأين هي قداسة حرية التعبير؟!
إن الإسلام دين الله الخالق الخبير الأعلم بما يصلح الإنسانية؛ فلم يكن من المستساغ أن يشرع لعباده حرية التعبير دون قيود؛ بل أحاطها بسياج من الضوابط التي تحمي الإنسان من أن يتحول سلوك حرية التعبير في حياته؛ إلى وحش يمزق تصوره وأخلاقه وعلاقاته، والتجمع البشري الذي ينتمي إليه.
وأخطر ذلك في المنظور الإسلامي؛ التعبير الذي يستهدف الرسل عليهم السلام بالسوء.
الماسونية وتوظيف حرية التعبير:
لقد ثبت أن الثورة الفرنسية الكبرى التي اندلعت عام 1789، ودعت إلى التحرر من كل القيود الدينية، ورفعت شعار [الحرية والمساواة والإخاء]؛ قد كان اليهود هم المخططين والمدبرين لها.
جاء في البروتوكولات السرية المعروفة ببروتوكولات حكماء صهيون، ما يلي:
“تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها: “الكبرى”، إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيدا، لأنها من صنع أيدينا، ونحن من ذلك الحين نقود الأمم قدما من خيبة إلى خيبة”.
“لقد كنا قديما أول من هتف بكلمات [الحرية والمساواة والإخاء]، وما انفكت هذه الكلمات ترددها ببغاوات جاهلة، يتجمهرون من كل حذب وصوب حول هذه الشعارات المغرية، التي حطموا عن طريقها العالم.
ولم يفهم الذين يدعون الذكاء وسعة الإدراك من غير اليهود “الجوييم” المعاني الرمزية التي تهدف إليها هذه الكلمات، ولم يتبينوا عواقبها، ولم يلاحظوا ما فيها من تناقض في المعنى، كما لم يدركوا أن الطبيعة نفسها تخلو من المساواة، وأن الطبيعة قد أوجدت أنماطا غير متساوية في العقل والشخصية والأخلاق والطاقة وغيرها.
إن صيحتنا [الحرية والمساواة والإخاء] قد جلبت إلى صفوفنا فرقا كاملة من زوايا العالم الأربع عن طريق وكلائنا المغفلين، وقد حملت هذه الفرق ألويتنا في نشوة، بينما كانت هذه الكلمات مثل كثير من الديدان تلتهم سعادة الجوييم [غير اليهود] وتحطم سلامهم واستقرارهم ووحدتهم، مدمرة بذلك أسس الدول، وقد جلب هذا العمل النصر لنا”[8].
هكذا يقولون في تعليماتهم وبياناتهم السرية لإخوانهم، وقد كانت هذه هي الخطوة الأولى من خطواتهم التي سلكوها بعد السيطرة على الصحافة.
ولا بد أن نلاحظ أن المؤسسات اليهودية السرية قد بذلت جهدا عظيما لتنفيذ هذه الخطوة بين الشعوب، وأن الماسونية كانت من أقوى هذه المؤسسات تأثيرا، لاشتراك كثير من العميان فيها، واندفاعهم الغبي في خدمة أهدافها.
فكان قيام الثورة الفرنسية، وتتابعت بعدها الأحداث الكبيرة في العالم ضمن المخطط اليهودي لتخريب الأمم والهيمنة على العالم.
[1] رواه أحمد وصححه الألباني.
[2] رواه مسلم.
[3] مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 95-98).
[4] النبوات لابن تيمية (1/ 195).
[5] المصدر نفسه (1/ 410- 411).
[6] انظر: كتاب “الحريات من القرآن الكريم” (ص. 79-81-85).
[7] مجلة الهداية الإسلامية؛ المجلد السادس، ربيع الأول 1353 هـ
[8] أجنحة المكر الثلاثة ص: 650-651.
وسوم :الرسول حرية التعبير مقال
ننوه الى أن ما ننشره من مواد للسادة والسيدات العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، لا يلزم منه الاتفاق معهم في كل أفكارهم وآرائهم
Nous précisons que le contenu publié d'un tiers auteurs n'implique pas que nous sommes forcément d'accord avec l'ensemble de ses idées.
Designed by Khalil BI