أنشطة وأخبار

التحريش بين الدعاة ..

تاريخ النشر : 6/05/2015

عدد المشاهدات : 2112


من آخر الوصايا التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في صحابته، وخلدها لأمته من بعده؛ قوله في خطبة الوداع :”إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم“.

وهذا يعني أن الموحدين المصلين، وإن كانوا قد أمنوا من الشرك وعبادة الأوثان، فليسوا بآمنين من التحريش وإثارة العداوات والصراعات بينهم.

كما أن هذا التحذير النبوي، وفي هذه الخطبة الوداعية الجامعة، يشير إلى مدى الخطورة التي يشكلها هذا التحريش بين المسلمين المتدينين خاصة.

والحق أنه ما أضر المسلمين عبر تاريخهم شيء كما أضرتهم صراعاتهم فيما بينهم.

وتحذير المسلمين من صراعاتهم الداخلية ومن آثارها المدمرة؛ جاء في أحاديث منها حديث مسلم وغيره عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: “سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها“.

وهذا يعني أن صراعات المسلمين فيما بينهم موكولة إليهم، وأنهم مبتلون بمعالجتها، فإن اتخذوا ما يلزم من الحيطة والحذر لتلافيها وتلافي أسبابها، فبها ونعمت، وإلا تركوا يتحملون تبعات تقصيرهم وسوء عملهم.

ومن الأسباب التي تفجر الصراعات بين المسلمين، السبب الذي حذر منه الحديث، وهو “التحريش بينهم“.

هذا التحريش الذي يباشره الشيطان نفسه، فينزغ ويوسوس، ويزين ويغري…

كما أن التحريش قد يدخل على العلماء والرؤساء والزعماء؛ من جهلة أتباعهم وأنصارهم؛ حيث يقوم هؤلاء المتهورون الانفعاليون بالضغط والاستفزاز ضد الجهة المخالفة، ويقع ذلك بالمبالغة في تضخيم الأمور وتشويهها، أو بتلقف الأخبار المثيرة ونقلها ما صح منها وما لم يصح، أو بتصوير الجهة المخالفة على أنها خطر على جماعتهم، أو على الإسلام نفسه…ٍِ!!

وقد يأتي التحريش من أناس مدسوسين، لهذه الغاية ولغيرها، يشعلون الصراعات والصدامات ويجرون إليها ويحرضون عليها، متقنعين بقناع الغيرة على الجماعة والإخلاص لها، والتفاني في نصرتها ومحاربة خصومها…

وكثيرا ما تجد هذه الفئة التأييد والمساندة من الفئة الأولى، فتتحد الأفعال ولو اختلفت النيات.

 فإذا اجتمعت الفئتان داخل جماعة أصبح التحريش فيها جاريا ضد غيرها على أشده؛ وأصبح التحريش خاضعا للتوجيه والتحكم من قريب ومن بعيد؛ من قريب حيث الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ومن بعيد حيث شياطين الإنس يمسكون بزمام عناصرهم المدسوسين…

وقد تكون هناك ضغوط أو مناورات خارجية، لاستدراج الدعاة والجماعات إلى حرب البيانات والبيانات المضادة، وقد يمتد ذلك حتى يتخذ شكل المؤلفات والمقالات..

وأحيانا يجري الإيقاع بين الاتجاهات الإسلامية وتأجيج خصوماتها عن طريق الندوات والمناظرات الملغمة:

ويحضرني هنا ما حكاه القاضي عياض عن مجلس من مجالس هارون الرشيد، اجتمع فيه الإمام مالك والقاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، فأمر الرشيد مالكا أن يناظر أبا يوسف وقال له: “ناظره يا أبا عبد الله”!

فقال مالك: “إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة”.

فما أحوج دعاتنا وعلماءنا إلى بصيرة كبصيرة الإمام مالك رضي الله عنه، ليميزوا بين المناظرات العلمية الصادقة، والمناظرات التي ليست سوى مؤامرات يجري إعدادها للتحريش بينهم وضرب بعضهم ببعض، كما يفعل الصبيان والسفلة بالبهائم والديكة.

وحتى إذا لم يجمع بين العلماء والدعاة والمفكرين والزعماء في مصادمات ومواجهات مباشرة؛ فإن وسائل الإعلام تقوم بذلك في شكل استجوابات واستفتاءات وحوارات تتحرى فيها مواطن الإثارة والجرح والتجريح والتعريض”اهـ.

الدكتور أحمد الريسوني / التعدد التنظيمي .. (ص44-47).